فرضت الأحداث المتسارعة خلال السنوات الماضية وبعد جائحة «كوفيد 19» على الساحة العالمية والعربية تساؤلات حاسمة بشأن التعليم النظامي الرسمي، بعد أن فرضت ظروف الجائحة فكرة التعلم عن بُعد باستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، والتخلي بشكل كبير عن الشكل التقليدي للتعليم النظامي في المدارس والجامعات، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لإعادة تقييم شاملة للعملية التعليمية الرسمية برمتها.
وتُعرف الأمم المُتحدة التعليم النظامي بأنه تعليم مؤسسي ومقصود ومقرر من قبل مؤسسات عامة وهيئات خاصة مُعترف بها، التي تُشكل في مجملها النظام التعليمي الرسمي لبلدٍ ما، وبالتالي يتم الاعتراف بالبرامج التعليمية النظامية طبقاً لهذه الصفة الرسمية، من قبل السلطات التعليمية الوطنية المُختصة أو ما يُعادلها، وهو تعليم مُمنهج بمناهج دراسية موحدة أو شبه موحدة، وينتهي عادةَ بمؤهلات أو شهادات رسمية تعترف بها الدولة للمراحل الدراسية المُختلفة ضمن إطارها الوطني للمؤهلات.
وهناك أنواع أخرى للتعلم مثل التعليم شبه الرسمي الذي يقوم فيه الطالب بدراسة منهج مُنظم، ولكن دون التزام بحضور يومي في الصف المدرسي، وغالباً ما يحصل في النهاية على نفس المؤهلات والشهادات التي يمنحها التعليم الرسمي، أما التعليم غير النظامي غير الرسمي ففيه يتعلم الطفل مهارات ومعلومات بشكل غير مُنظم ولا يحصل في النهاية على شهادة أو مؤهل.
تاريخ التعليم النظامي الرسمي
والمدارس النظامية الرسمية لها تاريخ طويل قد يعود إلى ما قبل الميلاد، حين أنشأ الإغريق مدارس للفلسفة أُطلق عليها الأكاديميات، بينما ينسب آخرون الفضل للأمريكي هوراس مان (1796 – 1859) في إنشاء أول مدرسة نظامية رسمية في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما في عالمنا العربي والإسلامي، فإن المدرسة النظامية قد أخذت اسمها من وزير الدولة السلجوقية نظام الملك الطوسي، الذي يرجع له الفضل في إنشاء المدارس النظامية ببغداد وأصفهان ونيسابور ومرو، التي اهتمت بتعليم الفقه والحديث، ومثلت أول مدارس رسمية مُنظمة في تاريخ الإسلام، وقام بالتدريس فيها عشرات من كبار الفقهاء والمفكرين المُسلمين أمثال حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وغيرهم.
مساوئ التعليم النظامي
ورغم ما ينطوي عليه التعليم النظامي الرسمي من مزايا تتعلق بالمساواة فيما بين الجميع للحصول على فرص متساوية وعادلة للتعلُم، ومُحاربة الجهل والفقر عبر منح الطبقات الأقل بوابة للترقي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وما يُقدمه المجتمع المدرسي من مهارات للطالب، فإن كثيراً من الدراسات قد بدأت في بحث جدوى التعليم النظامي بالمدارس بعد ما قدمته التكنولوجيا الحديثة من ثورة معرفية ضخمة ووسائل متطورة للتعلم، وقد ازدادت حدة تلك الدراسات على وقع جائحة «كوفيد 19»، وفيما يلي أهم ما توصلت إليه الدراسات بشأن مساوئ التعليم النظامي التقليدي في عالمنا المتغير:
1- التسلط:
المؤسسات الرسمية للتعليم عادة هي ما تُقرر للطالب سلفاً وبالنيابة عنه ما يدرسه ولا يدرسه، أو ما هو مُهم وما هو غير مُهم من معلومات ومهارات ومناهج، وهي التي تضع الطُرق التي تراها الأنسب لتحقيق الغايات التي حددتها بشكل منفرد.
من هنا، فإن ما يتعلمه الطلاب في الفصل المدرسي لم يكن لهم دور في اختياره أو تحديد ما إذا كانت تلك الموضوعات محط اهتمامهم أو تتوافق مع ميولهم ومهاراتهم أم لا، مما يُخفض من الدافعية لدى الطلاب ويُزيد من عدم جاذبية التعليم النظامي التقليدي.
2- الانفصال عن الواقع:
بينما يعايش العالم أسواق عمل سريعة التبدل في الحاجات والمطالب والوظائف، وشديدة التنافسية وعالية التخصصية، تتسم المؤسسات التعليمية التقليدية بالبطء والجمود وضعف الاستجابة لمتطلبات سوق العمل المتغيرة باستمرار والمعقدة بشكل كبير، بحيث لم تعد تلائم المعلومات والمهارات المدرسية والجامعية متطلبات سوق العمل، مما نتج عنه أن اتسعت الفجوة فيما بين المدرسة والمُجتمع، وأثقل كاهل متخرجي التعليم النظامي مادياً ومعنوياً بالبحث عن تعليم إضافي غير رسمي بجانب التحاقهم بالتعليم الرسمي لكي يدعموا أنفسهم بالمهارات والتخصصات والمؤهلات الحقيقية اللازمة لسوق العمل.
3- عدم احترام الذكاءات المُتعددة:
نظراً لأن المناهج موحدة، فإن الفوارق الفردية لا يتم مُراعاتها من جانب المسؤولين عن العملية التعليمية، إذ يعتمد النظام التعليمي الرسمي على المساواة المُطلقة بين الطلاب، دون الانتباه لما قد يتمتع به الطلاب من نسب ذكاءات مُتعددة أو مهارات متنوعة تجعل بعضهم أسرع في فهم بعض الموضوعات والمعلومات من غيرهم.
فنظام التعليم التقليدي يعتمد على النظرية الكلاسيكية لتعريف الذكاء باعتباره «قدرة على التكيف السريع مع وضع مُستحدث»، وبالتالي تقصره على الجوانب العقلية والعمليات الحسابية، بينما في عام 1983 تمكن العالم هوارد جاردنز من وضع نظرية ثورية للذكاءات المُتعددة التي رفضت حصر الذكاء الإنساني في جانب واحد، وكشفت عن وجود ذكاءات متنوعة ومتفاوتة في القوة والضعف لدى كل إنسان، وبالتالي فإن التركيز على حسن الانتباه أو إجراء عملية حسابية أو حفظ مجموعة من أبيات الشعر ينضوي على قدر كبير من عدم الإنصاف تجاه الطلاب الذين يتمتعون بذكاءات أعلى في المهارات الاجتماعية أو الموسيقية أو الرياضية، إذ لا يقيس التعليم الرسمي تلك القدرات بشكل رئيسي ضمن مناهجه.
4- قتل الإبداع والمهارات:
وينتج عن النقاط السابقة جميعاً نتيجة مهمة مفادها بأن التعليم النظامي الرسمي يُحبط المهارات والقدرات الإبداعية الفردية، عبر فرض منهج موحد للدراسة ونظام واحد للتقييم، ويُشجع على الحفظ أكثر من الفهم، ويُركز على تجميع النقاط والدرجات لاجتياز الاختبارات دون اعتداد للصيرورة العلمية والاستفادة العملية للطلاب وبناء الخبرات والمهارات الحياتية الحقيقية لديهم.
ونتيجة لتلك المساوئ التي تزداد حدتها بشكل خاص في عالمنا العربي، فإن التعليم النظامي الرسمي بشكل عام قد أصبح تقليدياً بشكل أبعد الطلاب عن الاستمتاع بالعملية التعليمية والفهم الحقيقي لفوائد التعلُّم إذا صار شهادة تقليدية رسمية للوجاهة الاجتماعية منبتة الصلة بالفائدة العلمية أو العملية الحقيقية، ودفع كثير من الطلاب والآباء إلى فُقدان الغاية والشغف بالتعلُّم والتوجه نحو طُرق بديلة للحصول على قسط حقيقي من التعلُّم سواء عبر المنصات الإلكترونية أو الدروس مدفوعة الأجر أو حتى السفر للخارج، ولا مجال لتطوير تعليمي حقيقي دون إعادة تقييم شاملة للعملية التعليمية وفلسفتها وغاياتها وإعادة ربطها بسوق العمل وحاجات المجتمع وتنمية المهارات والقدرات والخبرات الحياتية.
_____________________________________
(*) باحثة في الفكر الإسلامي، دكتوراة العلوم السياسية جامعة القاهرة.