نستكمل هنا عطاء محمد عبدالله دراز في اكتشاف الأسس المعرفية للنظرية الأخلاقية في القرآن الكريم، وتناولنا بالتحليل في القسم الأول من المدخل المعرفي ما يتعلق برسالته الأولى «مدخل إلى القرآن»، ونتناول في هذا القسم رسالته الثانية «دستور الأخلاق في القرآن»، وهي الرسالة التي اتبع فيها منهجية التحليل المعرفي للقرآن الكريم، بقصد الوصول إلى تشييد نظرية أخلاقية من واقع القرآن الكريم.
رسالة «دستور الأخلاق في القرآن عام 1947» رسالة ضخمة ترجمها عبدالصبور شاهين، وقدم لطبعتها الأولى السيد محمد بدوي، صاحب ترجمة الرسالة الأولى، وصدرت الترجمة العربية في طبعتها الأولى عام 1973.
القصد المنهجي
كما أسلفنا في بداية التعريف بالمدخل المعرفي لتجديد الدراسات القرآنية، فإن القصد المنهجي لهذا المدخل هو اكتشاف الأسس المعرفية لتفسير الظاهرة الاجتماعية في القرآن الكريم، وتقديم حلول لإشكالاتها التاريخية والنفسية والواقعية بغرض التوجيه والإصلاح الاجتماعي.
وهذا ما قامت به الرسالة الثانية التي نعرض لها هنا (دستور الأخلاق في القرآن)، التي عملت على اكتشاف الأسس المعرفية للنظرية الأخلاقية في القرآن الكريم، وذلك من خلال التعرض لركائز هذه النظرية في المنظور المعاصر، باستخدام المنهج المقارن والنقدي لهذا المنظور من ناحية، ومنهجية التحليل والتركيب للقرآن من ناحية أخرى.
وقفت الدراسة على عدة ركائز بحثية في النظرية الأخلاقية في القرآن، هي: الواجب الأخلاقي، والسلطة الأخلاقية، والإلزام الخلقي أو التكليف، والمسؤولية الأخلاقية، والجزاء، وطبيعة الجهد ناحية الفعل الأخلاقي، وطبيعة الإرادة الأخلاقية.
إن المقصد الرئيس لهذا العمل المعرفي تمثل في البحث عن مفردات وركائز الحياة الأخلاقية والمبدأ الأسمى للحياة الأخلاقية.
ركائز النظرية الأخلاقية
أكدت الدراسة أن الواجب في القرآن يقوم على فكرة القيمة التي نستمدها من «مثل أعلى»، وأن العقل والوحي مظهران لتلك الحقيقة الأساسية التي تعتبر المصدر الحقيقي للإلزام الخلقي، وأنه لا مكان للأخلاق بدون عقيدة، والعقيدة هنا تتصل بالأخلاق ذاتها، ومعناها الإيمان بالحقيقة الأخلاقية كحقيقة قائمة بذاتها تسمو على الفرد، وتفرض نفسها عليه بغض النظر عن أهوائه ومصالحه ورغباته.
وفيما يتعلق بالإلزام الأخلاقي الذي قد يجعل من الحياة الأخلاقية خضوعًا، معه تنتفي الحرية، وهو تبعًا لذلك نفي للأخلاق، وحل هذه الإشكالية يتمثل في المبدأ الذي يرى أن الأخلاق الحقيقية هي التي تضع الضمير الإنساني في وضع متوسط بين المثالي والواقعي، وتجعله يدمج بينهما، وهذا الدمج يؤدي إلى تغيير مزدوج في كليهما.
تنبثق عن فكرة الإلزام فكرة المسؤولية، وتتمثل أبعادها في ثلاثة جوانب أخلاقية ودينية واجتماعية، إن المسؤولية كما أقرها القرآن تتعلق بالشخصية الإنسانية في معناها الكامل، وليست هناك مسؤولية وراثية أو جماعية (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) (الأنعام: 164)، لكن ذلك لا ينفي المسؤولية الجماعية مطلقًا التي تتمثل في أدنى درجاتها بعدم مقاومة الشرور والأوزار التي تنتشر في المجتمع دون مقاومتها (النهي عن المنكر).
فيما يتعلق بالحرية في الفعل الأخلاقي، فإن الفكرة الأكثر وضوحًا في القرآن أنه ليس هناك شيء في الطبيعة الداخلية أو الخارجية يستطيع أن يرغم الإرادة الإنسانية على اختيار مسار غير الذي تختاره لنفسها وبنفسها، وقد يكون النزوع، أو الرغبة، أو المصلحة، أو الإيحاء، قد تكون هذه كلها أو بعضها عوامل تحرك الإرادة وتدفعها ولكنها لا تنتج القرار، لأنها ليست سبه المباشر، فالقرار النهائي ملك الإرادة، وهي وحدها تملك حق إصداره.
كما يترتب على الإلزام والمسؤولية بالضرورة مبدأ «الجزاء»، فالقانون الأخلاقي الذي يلزمنا ويضعنا أمام مسؤولياتنا يجب أن ينطوي، في الوقت نفسه على نظام لتقدير مواقفنا، في بعض المذاهب الأخلاقية تنكر وجود جزاء أخلاقي، وأن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون لذاته، لكن القرآن يزودنا بنوعين من هذا الجزاء، الجزاء ذو الطابع الإصلاحي، فالذي يسلك سلوكًا سيئًا عليه أن يقوم بتغييره حتى تتغير التبعات التي تترب عليه من فساد أو إهدار لحقوق الآخرين، وهو ما يعرف بالتوبة التي حددها القرآن وأشار إليها بكل وضوح، والجزاء الثاني ذي الطابع الاستحقاقي، حيث تتأثر ملكاتنا سموًا أو انحطاطًا بما نقوم به من أفعال أخلاقية جزاء وفاقًا.
أما المبدأ الأسمى الذي يضعه القرآن كشرط للحكم على أعمالنا، فهو الإخلاص، بحيث يكون الهدف الوحيد للعمل هو ابتغاء وجه الله، إننا لا نجد فيه تعبيرًا يقترح لنشاطنا غايات نفعية حتى لو كانت مشروعة، فالتصرفات الحكيمة إذا كانت غايتها الذات، والإخلاص للآخرين ليست إلا إضافات لا تقوم بذاتها، وإنما يؤكد القرآن الاستناد في ممارسة الفعل الأخلاقي كهدف أسمى إلى المبدأ الأول وهو العمل من أجل إرضاء الله تعالى.
كذلك عالجت الدراسة قضية الجهد الإنساني وعلاقته بالفعل الأخلاقي، وهل الفعل الأخلاقي يكون جراء جهد مقصود أم انبعاث تلقائي من داخل الفرد، موقف القرآن الكريم يقوم على مبدأ الموازنة بين الطرحين السابقين، ويدمج بينهما ويؤكد منهجية التركيب في الجهد الإنساني، هذه المنهجية التي تجمع بين الجهد والتيسير، فلا يتنافى التيسير العملي في ممارسة الشعائر مع مفهوم الجهد المبذول للقيام بالأداء، بل إنه يضفي عليها طابعًا إنسانيًا، ويهدف هذا الجهد إلى إبعاد روح التعسف الذي لا يبرره عقل ولا يدعو إليه واجب، كما أنه يستبعد التزمت والتشدد والتضييق، فهذا الجهد يخضع لحكم العقل ويتسم بالنبل والاعتدال، هو نفسه «الوسط العدل» الذي تكلم عنه الحكماء والفلاسفة.
الأخلاق العملية
انشغل القسم الثاني من هذه الدراسة بمعالجة الأحكام العملية التي جاء بها القرآن في المجال الأخلاقي، وذلك من خلال تصنيف هذه الأحكام العملية الأخلاقية حسب مجالات الحياة الإنسانية، إن أهم ما قدمته هذه الدراسة المرجعية هو منهجيتها في اكتشاف البُعد العملي للأحكام الأخلاقية في القرآن، وما أضافته من تصنيف لعدد من أبعاد الحياة الإنسانية والأحكام الأخلاقية القرآنية التي تغطيها كما ظهرت في تصنيفات كالتالي:
الأخلاق الفردية، ومنها:
أ- الأوامر، مثل: طهارة النفس، الاستقامة، العفة، الاحتشام، غض البصر، التحكم في الأهواء، كظم الغيظ، الصدق، التواضع، الثبات، الصبر، اجتناب سوء الظن، الاعتدال، التنافس في الخير.
ب- النواهي، مثل: عدم إزهاق النفس، الكذب، النفاق، البخل، الإسراف، الرياء، الاحتيال، الكبر، العجب، التفاخر بالإثم، الحسد والطمع..
الأخلاق الأسرية، مثل: الإحسان إلى الوالدين، احترام حياة الأولاد، المسؤولية الأسرية، التشاور، المساواة، المعاشرة بالمعروف.
الأخلاق الاجتماعية:
أ- محظورات، مثل: قتل النفس، السرقة، الغش، البخل، الظلم، خيانة الأمانة، أكل مال اليتيم، التواطؤ على الشر، الغش، الفساد، السخرية، كتم الحق، شهادة الزور، الغيبة، التجسس، القذف، الافتراء، الغيبة، التهاون.
ب- الأوامر، مثل: أداء الأمانة، الوفاء بالعقود، أداء الشهادة، إصلاح ذات البين، التشفع، الإحسان، العفو، التيسير، دفع السيئة بالحسنة، الدعوة إلى الخير، نشر العلم، العدل، المرحمة، الكرم، العطاء، الإيثار.
أخلاق الدولة:
أ- واجب الرؤساء، مثل: مشاورة الشعب، العدالة، إقرار النظام العام، صون الأمانة، العدالة، حماية الأقليات.
ب- واجب الشعب، مثل: النظام، الطاعة المشروطة، الوحدة حول المثل الأعلى، التشاور، تجنب الفساد، الدفاع العام، الرقابة الأخلاقية، تجنب موالاة العدو في العلاقات الخارجية.
حال المسلم، مثل: السلام، الموعظة بالدعوة إلى السلام، لا إكراه، لا كراهية، حسن الجوار، أمن الحياديين.
الدفاع عن النفس، مساعدة المستضعفين، قتال المقاتلة وحدهم، لا هروب عند ملاقاة الأعداء، الثبات والوحدة، الصبر والمثابرة، عدم الاستسلام، الوفاء بالمعاهدات.
الأخلاق الدينية: واجبات نحو الله، مثل: الإيمان بالله، الطاعة المطلقة، التدبر، الشكر، الرضا بفضائه، التوكل، عدم اليأس، أداء الفروض، التوبة.
نتناول في المقالة القادمة نموذج آخر للمدخل المعرفي في الدراسات القرآنية وعطاءاتها المنهجية لتطوير التعامل مع القرآن العظيم.