ليس معنى طلبك للسلام النفسي لك، ومسالمتك للناس أنهم سيتركونك وشأنك؛ فمن آثر السلامة دائمًا في حياته فلن يجدها؛ فغيرك لن يوادعوك مهما وادعتهم.
وكيف تكون الموادعة والمسالمة والعداوة ضاربة بأطنابها منذ أو وطئت أقدام آدم وزوجه الأرض؛ قال تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ (البقرة: 36).
فالأصل في حياة البشر الحرب والعدوان لا السلام، ومن صور العدوان التحرش الواقع من بعضهم تجاه الآخرين بوسوسة من الشيطان.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»(1)، ومعناه: «أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها»(2).
تعريف التحرش
لغة: التحرُّش من مادة «ح ر ش»، يقال: «حَرَشَ الضَبَّ يَحْرُشُهُ حَرْشًا: صادَهُ»(3)، و«حَرَشَه حَرْشًا، أَي: خدشه»(4)، و«الحَرْش والتحريش: إغراؤك إنسانًا بغيره»(5)، «وحَرَّش بينهم: أَفْسد وأَغْرى بعضَهم ببَعض»(6)، وألقى العداوة بينهم(7)، و«يقال: ألَّبَ فلانٌ على فلانٍ، إذا حرَّش عليه»(8)، و«التَّحريش من قولهم: حَرَّشَ فلانٌ فلانًا، أي: كلَّمه بما يَغضَب منه»(9)، و«الاحْتِرَاشُ: الخِدَاعُ. والتَّحْريشُ: ذِكْرُ ما يُوجِبُ العِتَابَ. وتَحَرَّشَ الضّبَّ وتَحَرَّشَ به: احْتَرَشَه»(10)، و«في حديث المسور: ما رأَيت رجُلاً ينفِر من الحَرْش مثلَه، يعني: معاوية، يريد بالحَرْش: الخديعةَ»(11)، و«تحرَّش به: تعرَّض له ليهيجه»(12)، وإنه ليتحرَّش بها، أي: يتعرَّض بشرِّه لها(13).
فالتحرُّش تدور معانيه حول اصطياد الفريسة وخداعها وخدشها والتعرُّض لها بالشر والسوء؛ فالنية السيئة كانت مبيَّتة، ولم يكن الأمر صدفة أو مجرد نزوة عارضة.
اصطلاحًا
التحرش الإلكتروني: صورة حديثة من صور التحرش استفادت من التقنيات الحديثة والتقدم التكنولوجي، وذلك باستخدام الإنترنت من خلال البريد الإلكتروني أو سائل التواصل الاجتماعي، أو باستخدام الهواتف المحمولة بالاتصال المباشر أو عبر الرسائل النصية؛ طمعًا في مال ضحية بعينها أو جمالها، أو محاولة إهانتها أو ترهيبها أو إسكاتها، أو تطويعها لفعل ما يريده المتحرش(14).
أشكال التحرش
التحرش قد يكون: جنسيًّا، أو فكريًّا، أو ماديًّا، أو استعماريًّا توسعيًّا.
فالتحرش الجنسي معروف شائع، ويقع فيه من لم ينل حظه من الأدب والتربية والأخلاق.
والتحرش الفكري يقع فيه المتعصبون وأنصاف المتعلمين والمخالفون والحاسدون.
والتحرش المادي يقع فيه الطامعون في أموال الآخرين.
والتحرش الاستعماري تقع فيه الدول الكبرى الراغبة في ثروات الدول الأخرى الضعيفة، أو غير الراغبة في أنظمة تلك الدول، أو مواقفها السياسية.
دوافع التحرش
تعددت الدوافع للتحرش بكل أشكاله؛ فقد يكون التحرش لمجرد الرغبة واللذة والاستمتاع، أو التعصب، أو الانتقام، أو تشويه السمعة، أو الكسب المادي بالابتزاز، أو التهديد والتخويف والترهيب، أو الإسكات، أو الإخضاع والسيطرة، أو الغيرة، أو اختلاف المصالح.. إلخ.
المتحرشون
كما ينطبق وصف التحرش على الأفراد فإنه ينطبق كذلك على المنظمات والدول، وهذا التحرش قد يكون تجاه الأفراد أو المنظمات أو الدول.
التحرش الجنسي
قد بينا فيما مضى أن مصطلح «التحرش» واسع جدًّا، وأنه يأخذ أشكالاً متعددة، لكنه عند إطلاقه فإن الأذهان تنصرف لشكل واحد من أشكاله، وهو التحرش الجنسي.
تعريف التحرش الجنسي
يمكن القول: إن التحرش الجنسي هو: التعرُّض للجنس الآخر بالقول أو بالكتابة أو بالفعل أو بالصور المبتذلة بما يخدش الحياء، وهذا التعرض قد يكون جهرًا أمام الناس أو سرًّا دون انتباههم، في العالم الحقيقي أو الافتراضي(15).
ولم نجعل التحرش في التعريف مختصًّا بالرجال دون النساء؛ إذ إن القرآن ذكر لنا قصة سيدنا يوسف عليه السلام، الذي كان ضحية والجانية والمتحرشة هي زوجة العزيز التي قالت عن نفسها: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (يوسف: 32).
التحرش الجنسي انحراف
هناك مسارات طبيعية لإشباع الرغبات والشهوات الفطرية المركوزة في بني الإنسان ذكرهم وأنثاهم.
هذه المسارات يقبلها العرف وتقرها الشرائع؛ فمن أُعجب بامرأة فإنه يطرق أبواب الحلال بطلب الزواج منها، وفتح له الشرع المجال إن لم تكفه واحدة بأن يسلك مسلك التعدد بضوابطه ومتطلباته.
لكن الذي لا يرى في الآخر إلا نزوة عابرة متحللاً من الشرع والعرف فإنه يسلك مسلك التحرش المقيت؛ فلا يرعى دينًا ولا خُلقًا، ولا يلجمه عقل، ويكون أسيرًا لشهوته التي تتحكم فيه تحكم الصغار في البهائم العجماوات.
وهذا المتحرش في العالم الافتراضي يكون جبانًا؛ إذ لا يُفصح عن شخصيته الحقيقية، ويتخفى خلف أسماء مستعارة، ويصل الأمر ببعضهم أن ينشئ صفحات على مواقع التواصل بأسماء نساء حتى يمكنه أن يتواصل معهن دون أن يشككن فيه في بادئ الأمر.
وهو شخص أناني لا يحب إلا نفسه، ولا يلقي بالاً بأعراض الآخرين طالما أشبع نزوته.
وهو شخص مخادع لا يقول كلمة طيبة أو حسنة إلا وهو يريد من ورائها أن يوقع ضحيته في شباكه، ويُظهر ابتداء عكس ما يخفيه.
التحرش مصيدة
التحرش قد يكون شبكة لصيد بعض الخصوم وإيقاعهم في تلك المصيدة؛ فليس كل الناس يمكنهم أن يتحكموا في أنفسهم إذا عُرضت عليهم المغريات؛ فيقعون في تلك المصيبة، ويتم تسجيل ذلك عليه بحيث يتم فضحه وهتك ستره، أو ابتزازه لينفِّذ ما يُطلب منه.
سد الباب على المتحرشين
المتحرشون وجدوا بغيتهم في وسائل التواصل حيث يكونون مجهولين أمام ضحاياهم؛ فلا يتعرف عليهم أحد، لكن على الضحايا ألا يعطوهم الفرصة وألا يفتحوا لهم بابًا للحوار والحديث.
فعلى المرء ألا يقبل الصداقة العشوائية لأي أحد، وألا يفتح باب الحديث المطول مع الجنس الآخر؛ لما في ذلك من مظنة الوقوع في المحاذير الشرعية، وفي الحظر راحة من هؤلاء المتحرشين، ومن يمكنه الوصول إلى شخصيتهم الحقيقية فلا يألو جهدًا في الشكاية بهم إلى أهلهم أو الشرطة حتى ينتهوا وليكونوا عبرة لغيرهم إذ وقعت عليهم عقوبة رادعة تمنعهم من استرخاص أعراض الآخرين واستسهالها.
____________________________________
(1) أخرجه مسلم في «صفات المنافقين وأحكامهم»، باب: «تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا»، ح(2812) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) شرح النووي على مسلم، (17/ 156).
(3) الصحاح، (3/ 1000).
(4) السابق، (3/ 1001) باختصار.
(5) العين، (3/ 94).
(6) لسان العرب، (6/ 279).
(7) انظر: مقاييس اللغة، (2/ 31).
(8) الاشتقاق، ص 492-493، باختصار.
(9) السابق، ص 298، باختصار.
(10) تاج العروس، (17/ 141).
(11) السابق، نفس الجزء والصفحة.
(12) المعجم الوسيط، (1/ 166).
(13) انظر: تهذيب اللغة، (3/ 249).
(14) انظر: https://me.kaspersky.com/resource-center/threats/how-to-avoid-cyberstalking، و https://me.kaspersky.com/resource-center/threats/how-to-avoid-cyberstalking، و https://www.unitad.un.org/ar/bullyingcyber، https://www.unescwa.org/ar/sd-glossary/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%B1%D9%88%D9%86%D9%8A.
(15) انظر: محداب ليلى: ظاهرة التحرش الجنسي في الوسط الجامعي (مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في علم الاجتماع)، ص 20.