يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وقد جاءت هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ومنها:
1- مرونة النفس الإنسانية
ويقصد بها: «تعديل السلوك الإنساني لمواجهة التغيرات الحاصلة»(1)، فهي تعني: الحركة المطلقة والتفاعل الإيجابي مع المستجدات الحياتية.
التأصيل الشرعي للمرونة الإنسانية
إن الناظر إلى النفس الإنسانية يجد أنها تنطوي على الخير والشر، والتقوى والفجور، فقد قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 10)؛ يعني الطريقين: طريق الخير وطريق الشر(2)، وقال سبحانه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10)، فهي نفس مرنة، تستطيع أن تنتقل بين هذه الأحوال صعودًا إلى الخير أو هبوطًا إلى الشر.
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل من نفسه في المرونة النفسية التي تستطيع أن تنتقل بين الأحوال المتباينة من أجل تحقيق الأفضل والأحسن، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أمرين إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها»(3).
التوظيف النفسي للمرونة الإنسانية
أكدت الدراسات العلمية أن النفس تقبل التغيير والتعديل وإعادة التشكيل، حيث إن «المرونة النفسية من العوامل المكونة للقدرة على التفكير الإيجابي والابتكاري والتكيف مع الصعوبات وحسن التفاعل معها»(4)، فالنفس البشرية تقبل التغيير الوجداني والتعديل السلوكي، من خلال تغيير المفاهيم والتصورات الفاعلة في تكوين الاتجاهات والسلوكيات.
التوظيف الدعوي لمرونة النفس الإنسانية
تؤسس المرونة الإنسانية لمنهجية التغيير الإسلامي في الفكر والسلوك، حيث إن «مرونة الذات الإنسانية وقابليتها لتعديل المعتقدات والمواقف هي مناط الرسالات السماوية التي جاءت لتعديل التصورات والمفاهيم الخاطئة»(5)؛ ولهذا يجب على الداعية أن ينطلق من قاعدة المرونة النفسية في تغيير الاتجاهات الفكرية والسلوكيات الحركية له ولمدعويه.
– أما مرونة النفس الإنسانية لدى الداعية فتظهر في قدرته على فهم الأحوال النفسية والظروف الاجتماعية، وحسن التفاعل معها، من غير جمود على حالة أو قضية أو أسلوب أو وسيلة دعوية واحدة.
– وأما المرونة لدى المدعوين فتظهر في انتقالهم بين الأحوال المتنوعة بناءً على تغير التصورات الذهنية أو تبدل الأحوال الاجتماعية؛ ولهذا وجب على الداعية أن يرسم الخطط ويختار أفضل الأساليب والوسائل التي يصل من خلالها إلى توظيف مرونة النفس في تعديل التصورات والاتجاهات وضبط السلوكيات.
الدليل على التأثير الناجح لتوظيف المرونة النفسية في العمل الدعوي
إن المتدبر في حياة الأنبياء والمرسلين وسير الدعاة المخلصين، يدرك أن ما أحدثوه من تغيير في حياة أقوامهم ونجاح في أداء مهماتهم؛ جاء نتيجة توظيف مرونة الدعاة والمدعوين في استيعاب الواقع الذي يعيشون فيه واختيار أقوم السبل التي تحقق النجاح والفلاح.
ومما يدل على ذلك ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم مع سيدنا خالد بن الوليد، فقد ذكرت كتب السير أن خالداً بن الوليد رضي الله عنه قال: لما صالح النبي قريشاً بالحديبية قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين أذهب؟ إلى النجاشي؟! فقد اتبع محمدًا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية؟! فأقيم مع عَجَمٍ تَابِعاً، أَوْ أُقيم في داري فِيمَنْ بَقِي؟ فأنا في ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية، فتغيبتُ ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبني فلم يجدني فكتب إليّ كتابًا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك عقلك! وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال: «أين خالد؟»، فقلت: يأتي الله به، فقال: «مثله جهل الإسلام؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيراً له، ولقدَّمْناه على غيره»، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة.
قال (خالد): فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، فذهبت إليه وسلمت عليه بالنبوة فرد عليَّ السلام بوجه مبتسم، فقلتُ: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: «تعال»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك، قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير»(6)، ففي هذا الموقف بيان واضح لإحاطة النبي صلى الله عليه وسلم (الداعية) بنفسية المدعو، ووقوفه على أحواله وسماته الشخصية وتطلعاته المستقبلية، ولهذا سأل عنه واختار أفضل السبل الملائمة له، حتى هداه الله إلى الحق والرشاد.
والخلاصة: أن مرونة النفس الإنسانية وقابليتها للتغيير وإعادة التشكيل تعد أساساً فاعلاً في نجاح العمل الدعوي، فعلى الداعية أن يستثمر هذه الركيزة في فهم نفسية المدعوين واختيار أنسب الوسائل التي تنتقل بهم من الضلالة إلى الهداية، وتراعي أحوالهم من البداية إلى النهاية.
___________________________________________
(1) معجم اللغة العربية المعاصرة: د. أحمد مختار عبدالحميد عمر، (3/ 2090).
(2) تفسير القرطبي، (20/ 65).
(3) صحيح البخاري، (3/ 1306 رقم 3367).
(4) المرونة النفسية وعلاقتها بالتفكير الإيجابي لدى المراهقين: د. عائشة العازمي، ص: 144.
(5) فلسفة التربية في الإسلام انتماء وارتقاء: د. أحمد رجب الأسمر، ص161.
(6) سير أعلام النبلاء: الذهبي، (2/ 115)، البداية والنهاية: ابن كثير، (6/ 406).
(*) أستاذ جامعي، دكتوراة في الدعوة الإسلامية.