- بعض الإخوة يرفض الصلاة في مساجد المسلمين، مصراً على اعتزالها والاكتفاء بالصلاة في البيوت، واعتبار ذلك جزءاً من مقاطعة المجتمع الجاهلي، مستندين في ذلك إلى ما قرؤوه في “الظلال”، عند تفسير الآية (87) من سورة “يونس”، وفيها يقول الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87)، فقد جاء في تفسيرها: هذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لهم فيها أسوة ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة، وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم طاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبّر الطاغوت وفسد الناس، وأنتنت البيئة.. وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
1- اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها، ما أمكن ذلك، وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها لتطهرها وتزكيها وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
2- اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح، وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور.. (الظلال، ج11، ص181 ط. ثانية).
ومن إيحاء هذه العبارات اتخذ هؤلاء قرارهم وجعلوا بيوتهم قبلة لهم مقاطعين المساجد والجوامع التي يؤمها سائر المسلمين، فهل ما يفعلونه جائز شرعاً؟
– قبل أن أجيب عن السؤال أحب أن أضع هذه الحقائق:
الأولى: لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وحده المسدد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقره الله على خطأ، وكل أحد سواه يؤخذ كلامه ويترك.
الثانية: كل مؤمن اجتهد في طلب الحق واستفراغ وسعه في معرفته مأجور على اجتهاده ونيته، وإن أخطأ في النتيجة، وخطؤه مغفور له كائناً ما كان، قال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب: 5).
الثالثة: الخطر ليس على العالِم المجتهد إذا أخطأ وزلَّ، ولكن على من اتبعه في خطئه وزلته بعد تبيّنها، ولهذا أمرنا أن نتقي زلة العلم، وقال عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالِم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة (أي حكام) مضلون.
الرابعة: نحن مأمورون عند التنازع بأن نرد ما اختلفنا فيه إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء: 59)، ومعنى ذلك الرجوع إلى الكتاب والسُّنة، فما يقول هذان المصدران المعصومان في قضيتنا.
أولاً: القرآن:
أ- في سورة “النور”: مدح الله تعالى المساجد وروادها بقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:36-37)، وليس بعد هذا الثناء على أهل المساجد قول لقائل.
ب- في سورة “التوبة”: يقول تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18)، وعمارة المساجد هنا ليس معناها البناء والتشييد كما يتوهم، بل عمارتها بالصلاة والدعاء وذكر الله وإقامة شعائره، فشهد الله لعمار المساجد بالإيمان كما قال ابن كثير في تفسيره.
ثانياً: السُّنة:
1- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان”.
2- روى الشيخان وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح”.
3- قال ابن عباس رضي الله عنه: “من سمع النداء بالصلاة فلم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فيه فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله، قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18)، ذكره ابن كثير عن ابن مردويه، قال: وقد روي مرفوعاً من وجه آخر، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها.
4- روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن (يعني في المساجد) فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنة نبيكم، ولو تركتم سُنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها (أي الجماعة) إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين (لمرضه أو ضعفه) حتى يقام في الصف”.
ثالثاً: إبطال شبهة معتزلي المساجد:
التفسير الوارد لآية سورة “يونس” خاطئ من وجوه، فهو غير مسلم لمن قال به، وهو مجرد رأي، وليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صاحبي أو تابعي، والمروي عن سادات التابعين في ذلك ما ذكره ابن كثير عن إبراهيم في: (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (يونس: 87)، قال: كانوا خائفين، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم، وكذلك قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، وأبوه أسلم.
وذكر ابن كثير عن ابن عباس ما يؤيد هذا.
وعلى هذا فليس في الآية أدنى حجة على اعتزال المساجد في حالة الاختيار والسعة.
العدد (1601)، ص59 – 2 ربيع الآخرة 1425ه – 15/5/2004م