إن وسائل التواصل الحديثة بحر متلاطم لا ساحل له، يرده كل وارد فيجد فيه بغيته، ويغرق فيه من لا يأخذ حذره واحتياطاته.
فمن طلبه للعلم وجد فيه ما يرفع عنه الجهل والغشاوة إن صادف أهله من أهل العلم المحققين الأثبات، أو وقع في الجهل والضلال إن طرق أبواب أهل الزيغ والانحراف.
ومن طلبه للهو قد يمضي سحابة يومه وليلته في اللهو ويضيع وقته دون أن يشعر.. إلخ.
وتلك الوسائل هي منابر يستخدمها كل أهل دعوة لتبليغ دعوتهم مهما كان حظها من الصواب أو الخطأ.
وكل دعوة تحتاج رجالاً ينشرونها، ويقفون عليها، ويبذلون في سبيلها كل غال ونفيس.
فإن كانت دعوة حق كانت نهاية طريقها مشرقة منيرة؛ حيث الرضوان من الله تعالى صاحب الدعوة، والأنبياء هم دعاتها، وسيد الدعاة هو النبي المصطفى ﷺ، والمستجيبون لها لهم النعيم المقيم؛ فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال: «جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهْوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً.. فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ. فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا.. فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا ﷺ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا ﷺ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ»(1).
وإن كانت الدعوة دعوة باطل، فصاحبها الأصيل هو الشيطان، ودعاتها من أبالسة الإنس وإن أظهروا الورع والزهد تلبيسًا على الخلْق، ونهاية طريقها غضب الرحمن والنيران، والمستجيبون لها ضُلاَّل غواة؛ قال حُذَيْفَة بْن الْيَمَانِ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(2).
وقد مكَّنت وسائل الاتصال الدعاة من أن يصلوا إلى الناس وهم في حجراتهم، دون أن يتكلَّفوا التحرك إلى أماكن الدعاة، إلى جانب أن طلاب العلم يمكنهم أن يستمعوا إليهم في أي وقت من ليلٍ أو نهار دون أن تفوتهم كلمة قيلت.
وكانت وما زالت مهمة الداعي ووظيفته أن يقول كلمته، ويبذل جهده في تعليم الناس وتقويمهم، لكنه قد يُحارب من بعض الأنظمة أو الجهات أو الأشخاص فيعملون على إسكاته، فجاءت تلك الوسائل فحرَّرت الدعاة -إلى حدٍّ ما- من سطوة الأنظمة التي قد تحاربهم وتمنعهم من قول كلمتهم، أو التواصل المباشر مع الناس.
لكنها في الوقت نفسه أصبحت دليل إدانة لهم مسجلاً بالصوت والصورة إن قال ما لا يعجب الأنظمة أو بعض الجماعات أو بعض أصحاب النفوذ.. إلخ.
وإن حظ الدعاة من إقبال الناس عليهم أو إدبارهم عنهم مختلف؛ فهناك من يكثر أتباعه ومريدوه فيكونون فوق العد والحصر، ومنهم من يقلّ مريدوه حتى يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة.
وحال الدعاة هو حال سادتهم الأنبياء؛ فعن ابْن عَبَّاسٍ قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ..»(3).
وفي أحيان يكثر المستمعون لداعٍ ما، وفي أوقات أخرى يقلِّون، وقد وصل الحال بالنبي ﷺ أن تركه الصحابة وهو يخطب، وقد سجل القرآن ذلك؛ فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ (الجمعة: 11)(4).
والشهرة وعلو الذِّكر رزق من الله تعالى؛ فقد تجد العالم الكبير ولا يقصده إلا القليل من طلبة العلم، وآخرين دونهم في العلم إلا أنهم ذائعو الصيت، لهم الكلمة المسموعة، والأقوال المشهورة.
وقد تجد الأقران الكبار لكن أحدهم أشهر من الآخرين.
وليس الالتفاف حول علم دون آخر؛ فلكل علمٍ مريدوه ومحبوه.
وهذا ليس أمرًا حديثًا مرتبطًا بوسائل الاتصال الحديثة، بل قديم جدًّا.
فقد تجد، مثلاً، أن تقي الدين محمود بن علي بن محمود الدقوقي محدِّث بغداد يحضر مجلسه نحو الألفين(5)، في حين أن علياً بن عاصم أبا الحسن الواسطي محدِّث واسط كان يحضر مجلسه ثلاثون ألفًا(6)، «والبخاري كان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفًا يأخذون عنه»(7).
وهناك من انجذب له العوام والخواص رغم رأي العلماء السيئ فيه؛ فهذا أبو الفتوح الطوسي الواعظ جاءت عنه حكايات تدل على انحلاله «حصل له القبول التام، واصطاد الخواص والعوام، وكان يحضر مجلسه عالَم لا يُحصى»(8).
وهناك من اختص به الأعيان والكبراء الذين يحضرون مجلسه مثل: صدر الدين الخجندي الأصبهاني(9).
وهناك من وجد له المريدين رغم ضعفه في اللغة العربية؛ مثل أبي الفتح المطوعي الواعظ، الذي «كان حسن الوعظ بالفارسية قليل البضاعة في العربية يحضر مجلسه الأتراك العسكرية»(10).
وهناك من يكون بروزه سببًا في التفاف الناس حوله، وانفضاضهم عن قرنه؛ فهذا الأمير العبَّادي الواعظ «كان يحضر مجلسه من الرجال والنساء ثلاثون ألفًا، ولما قدم بغداد كان البرهان الغرنوي يعظ بها فانكسر سوقه»(11).
وهناك العلماء الأثبات الذين لم يعرفوا قط فقرًا في الأتباع والمريدين؛ فأبو الفرج بن الجوزي «أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف»(12)، و«أبو حامد الإسفرايني كان يحضر درسه سبعمائة متفقه»(13).
وهناك من العلماء من كان يحضر مجلسه طلاب من أقاصي الأرض؛ فابن الأعرابي كان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، ورُئي في مجلسه رجلان أحدهما من إسبيجاب ببلاد ما وراء النهر، والآخر من الأندلس(14).
وفي المقابل، نجد العالم الكبير ولا يحضر مجلسه إلا القليل؛ قال الأوزاعي: «مات عطاء بن أبي رباح يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس، وما كان يشهد مجلسه إلا سبعة أو ثمانية»(15).
وما سقناه يشبه حال الدعاة اليوم مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ إن منهم من يكثر معجبوه وبضاعته في العلم مزجاة، ومنهم من يتكلم في كل فن وعلم وحدث كأنه أعظم العلماء والمحللين السياسيين والاقتصاديين والمطلع على خبايا الأمور التي لا يطلع عليها غيره فيضلل متابعيه أكثر مما ينوِّرهم.
وفي المقابل، تجد بعضًا من العلماء المحققين ما لا يهتم بقناته إلا القليل.
لكن يجب ألا يكون ذلك مدعاة لليأس أو الإحباط؛ فإخلاص النية، وحسن التحضير والإلقاء، مع توضيح الفكرة وتبسيطها قدر المستطاع، مع حسن الإخراج الفني قد يكون كل ذلك وغيره سببًا في إقبال الناس عليه.
وإن لم يحدث فما عليه إلا البلاغ، وإنما الأجر على قدر العمل، لا على كثرة الأتباع والمريدين.
________________
(1) أخرجه البخاري.
(2) أخرجه البخاري.
(3) أخرجه البخاري.
(4) أخرجه مسلم.
(5) توضيح المشتبه، (4/ 26).
(6) العبر، (1/ 263).
(7) تهذيب الأسماء، (1/ 73).
(8) لسان الميزان، (1/ 293).
(9) الوافي بالوفيات، (3/ 233).
(10) السابق، (5/ 163).
(11) السابق، (8/238) باختصار.
(12) ذيل طبقات الحنابلة، (2/ 481).
(13) تاريخ بغداد، (4/ 368).
(14) انظر: وفيات الأعيان، (4/ 307).
(15) تهذيب الكمال، (20/ 80).