في معركة الوعي، يعاني شبابنا من تشوش الرؤية وضبابية الأفكار، ففي الوقت الذي يسعى فيه الشباب للحصول على دورات في شتى مجالات المعرفة حتى يجد فرصة عمل مناسبة، فإنه لا يمنح الوقت والجهد الكافي للارتقاء بوعيه وأفكاره وقيمه.
وينعكس ذلك بشدة على تجربته مع الزواج؛ حيث لا يمتلك رؤية واضحة لطبيعة العلاقة الزواجية، ومن ثم تنتهي كثير من الزيجات بالمشكلات الحادة والطلاق.
في مصر، على سبيل المثال، تقع 28% من حالات الطلاق في السنوات الثلاث الأولى؛ لذلك كانت الحاجة ماسة لإدخال برامج تدريبية للشباب في المدارس والجامعات لتجسير فجوة الوعي بالبناء الأسري.
وإذا حاولنا تتبع مثل هذه الدورات والبرامج في بلادنا العربية؛ سنجد أنها شحيحة ومحدودة وتكاد تكون رمزية، مقارنة بدولة مثل ماليزيا نجحت في تخفيض معدلات الطلاق من 32% لأقل من 10%.
نجاح التجربة الماليزية استند إلى آلية جديدة لرفع الوعي الزواجي عن طريق دورة إجبارية متخصصة للمقبلين على الزواج، يحصل بعدها الشاب أو الشابة على رخصة زواج، وهو أمر يمكن لنا محاكاته وإن كان بصورة مختلفة عن طريق إدراج مقرر منهجي عن البناء الأسري ينبغي اجتيازه للحصول على المؤهل الدراسي.
مقرر دراسي
مقرر دراسي جذاب وعصري عن البناء الأسري، مفهومه، ركائزه، تحدياته، قد يساعدنا في الارتقاء بوعي الشباب المقبل على الزواج، ومنحه مساحة واضحة من الرؤية ليحسن اختياراته ويتعرف على وقع خطواته ويستطيع حل مشكلاته البسيطة قبل أن تتضخم؛ وهذا هو الدور المنوط بالمؤسسات التعليمية التي تشرف على القطاع الأكبر من الشباب وتستطيع أن تلهمهم رؤية مختلفة حتى لا تنفرد «الميديا» والدراما بصناعة وتشكيل الوعي الشبابي.
نظم راكدة
على الرغم من أن الدور الذي تستطيع ممارسته المؤسسات التعليمية قد يكون بالغ الفعالية في تهيئة الشباب للزواج، فإن نظم التعليم في بلادنا تعاني مشكلات مركبة بدءاً من غياب المعلم المحترف الذي يؤمن برسالته، مروراً بالمناهج الدراسية التي لا تنظر بكثير اهتمام لذاتنا الحضارية، وحتى الطالب الذي فقد شغفه في التعلم، فمنذ سنوات طويلة ومنهج الاقتصاد المنزلي في المدارس المصرية يدرس التربية الأسرية والتوافق الزواجي دون أي تفاعل بين معلمة المادة والطالبات، فهي مادة لا تضاف للمجموع ولا يأبه بها أحد.
بل إن المؤسسات التعليمية متهمة بخلق مناخ لا يشجع على فهم فلسفة البناء الأسري الحقيقي؛ وذلك بسبب «تهميش مادة التربية الدينية في المدارس واستبعادها في الجامعات وعدم الاهتمام بالثقافة الإسلامية وغياب الاهتمام بتشكيل اتجاهات الطلاب وفق القيم الدينية»(1).
فإذا أضفنا لذلك «تراجع الدور التربوي للمعلم وعدم تأهيل المعلمين التأهيل المواکب للعصر والاختلاط غير المنضبط.. حتى وصل الأمر لظهور الزواج العرفي لدى المعلمين وهم القدوة»(2).
احتياجات ضرورية
المؤسسة التعليمية حتى تستطيع القيام بدورها في التنوير ورفع الوعي خاصة فيما يتعلق بقيم الأسرة بحاجة لأكثر من الجانب المعرفي الذي يتضمنه مقرر ما، فهي بحاجة للمعلم الرسالي القدوة، وفي بحاجة لورش العمل التطبيقية التي تنمي الجانب المهاري، وفي حاجة للاختصاصي النفسي والاجتماعي الفعال الذي يستطيع علاج الخلل الذي قد يعانيه بعض الطلاب.
وإذا تحدثنا عن تدريس مادة الثقافة الجنسية تحديداً، فلا بد أن نأخذ كل الحيطة حتى لا يتسبب تدريسها في أضرار تفوق الفوائد المرجوة منها، فإذا كان الهدف من تدريس هذا المقرر منح الطلاب مجموعة من المعارف السليمة التي تراعي قواعد الصحة خاصة الصحة الإنجابية بطريقة علمية رصينة، فإن تعاطي المراهقين مع هذا الانفتاح المعرفي إذا لم تكن البيئة التعليمية آمنة قد يعزز الانحراف؛ «هناك العديد من العوامل المهيئة للشباب للوقوع في براثن الانحراف الجنسي؛ منها: تهيئة الظروف مثل الاختلاط بين الذكور والإناث، وكذلك الإغراء اللفظي بما يسمعه الشباب من كلمات وعبارات جارحة وخارجة عن نطاق الأخلاق والقيم، والإغراء النفسي وما يمر به الشباب في مرحلة المراهقة من هيجان الدافع الجنسي عند الشباب وعدم التعامل معه بالشكل الصحيح»(3).
كل هذه عوامل ينبغي التنبه إليها، فالقضية تتجاوز مقرراً مهماً مكتوباً بطريقة احترافية لطبيعة البيئة التعليمية، والسياق الذي يدرس فيه المقرر، والمعلم الذي يمتلك المهارات والأدوات، وتهيئة الطلاب للتعاطي الإيجابي مع المقرر الدراسي ومراعاة طور النمو النفسي والانفعالي للطالب.
برامج واعدة
السنوات الأخيرة شهدت عدداً من المبادرات والبرامج الواعدة التي قامت بها المؤسسات التعليمية لصناعة وعي جديد لدى الشباب، فيما يتعلق بالتصورات الذهنية للبناء الأسري.
ولو أخذنا نموذج برنامج «مودة» الذي تنفذه وزارة التضامن المصرية بالشراكة مع المجلس الأعلى للجامعات بداية من العام 2019م، حيث تم القيام بتدريب أكثر من 135 ألف طالب وطالبة، بالإضافة لتدريب مئات من أعضاء هيئة التدريس للقيام بدور المدربين للطلاب، سنجد أن الهدف من هذا المشروع دعم الشباب المُقبل على الزواج بالمعارف والمهارات التي تمكنهم من بناء كيان أسري مستقر والحفاظ عليه، وتطوير آليات الدعم والإرشاد الأسري بما يساهم في خفض معدلات الطلاق.
«مودة» برنامج تدريبي ذو محتوى علمي معتمد من المجلس الأعلى للجامعات يتضمن أبعاداً اجتماعية ونفسية ودينية وصحية في العلاقات الأسرية، بدأ يلاقي رواجاً عند الطلاب.
ففي دراسة بحثية أجريت على طلاب جامعة حلوان لمعرفة الدافع وراء اشتراكهم في البرنامج كانت «أولوية أسباب الحصول على برنامج مودة لدى عينة البحث الأساسية للقناعة الشخصية بأهمية البرنامج بنسبة 35.6%، يليه في المرتبة الثانية احتياجهم لاكتساب المعلومات المقدمة في البرنامج بنسبة 33.4%، والمرتبة الثالثة والأخيرة كانت متطلب التخرج تم الاحتياج لاجتيازه 30.4%، وهذا يؤكد شغف طلاب هذه المرحلة بأهمية الوعي بأبعاد الثقافة الأسرية واحتياجهم لاكتساب المعلومات والمعارف المقدمة في البرنامج، حيث إنهم على أعتاب إقامة حياة أسرية، كما يشير إلى افتقادهم لمصادر موثوقة لتلقي هذه المعارف»(4).
وكتغذية راجعة للثقافة الأسرية للطلاب المشاركين في البرنامج، تم إثبات «وجود فروق ذات دلالة إحصائية عند مستوى دلالة 0.01 بين التطبيق القبلي والبعدي لجميع أبعاد الثقافة الأسرية لدى الشباب الجامعي عينة البحث التجريبية»(5).
وهي وإن كانت دلالة منخفضة، إلا إنها مبشرة وواعدة، فأي تغير طفيف في اتجاهات الشباب المقبلين على الزواج سواء على مستوى العادات والمواقف أو المعتقدات والتوجهات الفكرية والانفعالية سيؤدي لاستقرار العلاقات الزواجية؛ لأنهم سيمتلكون القدرة على التكيف والرضا، وسيمتلكون -وهذا هو الأهم- مهارات تواصل فعالة تساعدهم في حل المشكلات واتخاذ القرارات.
إن البرامج التدريبية التي تقوم بها المؤسسات التعليمية منوط بها التأكيد على مفاهيم الالتزام والمسؤولية في البناء الأسري الذي لا يمكن أن يقوم فقط على الجانب العاطفي والجنسي، مع الاهتمام أيضاً بتقديم إضاءات مركزية لهذا الجانب المهم، وهو أمر يحتاج لمزيد من الجهود المتخصصة والتدريب الاحترافي للمدربين وإستراتيجية تراعي الذات الحضارية للأمة.
______________________________________________________________
(1) فاروق مصطفى جبريل، المناخ الأسري والجامعي المدرك والمأمول وعلاقتهما بالذكاء الروحي لدى طلاب الجامعة، رسالة ماجستير، كلية التربية- جامعة المنصورة.
(2) المرجع السابق، بتصرف يسير.
(3) السر أحمد سليمان، العوامل الواقية من الانحرافات الجنسية، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية- مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت.
(4) رغدة محمود، أسماء الكردي، النسق القيمي للشباب الجامعي وانعكاسه على أبعاد الثقافة الأسرية لديهم في ضوء تطبيق المبادرة القومية (مودة)، ورقة بحثية منشورة في مجلة الاقتصاد المنزلي جامعة المنوفية 2022 بتصرف يسير.
(5) المرجع السابق.