بعض المثقفين ثقافة أوروبية يَدَّعُونَ أن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر، ولكنهم لا يعللون هذا الادعاء بعلة ما ولو أنهم قالوا: إن مبدأ معينًا أو مبادئ بذاتها لا تصلح للعصر الحاضر وَبَيَّنُوا السبب في عدم صلاحيتها، لكان لاِدِّعَائِهِمْ قيمة ولأمكن من الوجهة المنطقية مناقشة أقوالهم وتزييفها أما أَنْ يَدَّعُوا أن الشريعة كلها لا تصلح للعصر، ولا يقدمون على قولهم حجة واحدة، فذلك شيء غريب على ذوي العقول المفكرة.
وإذا عرفنا أنهم يدعون هذا الادعاء، وهم أجهل الناس بالشريعة جاز لنا أن نقول: إن ادعاءهم هذا قائم على الجهل والافتراء.
إن صلاحية الشرائع تقرر أن أساس صلاحية مبادئها، وليس في الشريعة مبدأ واحد يمكن أن يوصم بعدم الصلاحية، وإذا استطعنا أن نستعرض طائفة من أهم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية علمنا إلى أي حد بلغ الجهل، والادعاء ببعض المسلمين.
فالشريعة الإسلامية تقرر مبدأ «المساوة» بين الناس دون قيد ولا شرط وذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13)، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى»، وقد جاءت الشريعة بهذا المبدأ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، بينما القوانين الوضعية التي يفخر بها الجهلاء لم تعرف هذا المبدأ إلا في أواخر القرن الثامن عشر، ولا تزال معظم الدول الأوروبية، والولايات الأمريكية تطبق هذا المبدأ تطبيقًا مقيدًا.
وقد قررت الشريعة من يوم نزولها مبدأ «الحرية» في أروع مظاهرها، فقررت حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، والنصوص في ذلك كثيرة نجتزئ منها قوله تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101)، وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269)، وقوله: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256)، وقوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 104).
ومبدأ الحرية بِشُعَبِهِ الثلاث لم تعرفه القوانين الوضعية إلا بعد الثورة الفرنسية، ولكن الجهلاء يسلبون الشريعة فضائلها ويدعونها للقوانين الوضعية، ومن المبادئ التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية مبدأ «العدالة» المطلقة وذلك قوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وقوله: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) (النساء: 135).
وهذا المبدأ الذي جاءت به الشريعة من يوم نزولها لم تعرفه القوانين الوضعية إلا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر، هذه هي المبادئ الثلاثة التي تقوم على أساسها القوانين الوضعية الحديثة، عرفتها الشريعة قبل القوانين بأكثر من أحد عشر قرنًا، فكيف تصلح القوانين للعصر الحاضر، ولا تصلح الشريعة وهي تقوم على نفس المبادئ!
الشريعة الإسلامية جاءت بمبدأ «الشورى» من يوم نزولها وذلك قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وقوله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، ولقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية بأحد عشر قرنًا في تقرير هذا المبدأ، عدا القانون الإنجليزي الذي أخذ بالمبدأ بعد الشريعة بعشرة قرون، فالقوانين الوضعية حين قررت مبدأ الشورى لم تأت بجديد وإنما انتهت إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية جاءت من يوم نزولها بتقييد سلطة الحاكم، وباعتبارها نائبًا عن الأمة، وبمسؤوليته عن عدوانه وأخطائه، فالشريعة تسري على الحاكم وغير الحاكم بمنزلة سواء والحاكم مقيد في تصرفاته بكل ما جاءت به الشريعة ولا ميزة له على المحكومين، وكل ذلك تطبيق لنظرية المساواة، ولقد جاءت الشريعة بهذه المبادئ التي تقوم عليها الحكومات العصرية، قبل أن تعرف القوانين الوضعية هذه المبادئ بأكثر من أحد عشر قرنًا، فكيف يقال: إن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر!
والشريعة الإسلامية نزلت بتحريم الخمر وإباحة الطلاق، وذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (المائدة: 90)، وقوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229)، ولم تعرف القوانين الوضعية تحريم الخمر، وإباحة الطلاق إلا في هذا القرن، وبعض القوانين يحرم الخمر تحريمًا مطلقًا، وبعضها يحرمها تحريمًا جزئيًا، وبعضها يبيح الطلاق دون قيد، وبعضها يقيده، فكيف تصلح القوانين التي اتخذت عن الشريعة، ولا تصلح الشريعة؟!
والشريعة الإسلامية أول شريعة جاءت بنظرية التعاون الاجتماعي، ونظرية التضامن الاجتماعي، وذلك قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وقوله: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ {24} لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج)، وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103)، وقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60)، وقوله: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7).
وقد عرفت الشريعة هاتين النظريتين منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، ولم يعرفها العالم غير الإسلامي إلا في هذا القرن وهو يطبقها إلى حد محدود، والشريعة تحرم الاحتكار، وتحرم استغلال النفوذ، والرشوة، فيقول الرسول صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»، ويقول الله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ َ) (البقرة: 188).
وهذه المبادئ لم تعرفها القوانين الوضعية إلا أخيرًا، والشريعة تقوم على تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وذلك قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الأعراف: 33).
وتقوم الشريعة على الدعوة للخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)، وهذه المبادئ التي تقوم عليها الشريعة هي المثل العليا التي يتطلع إليها البشر، وتحلم بها الإنسانية، فكيف لا تصلح الشريعة لعصر يرى مبادئها مثله العليا؟!
ولو تتبعنا المبادئ الإنسانية، والاجتماعية، والقانونية التي يعرفها هذا العصر ويفخر بها أبناؤه لوجدنا كلها واحدًا واحدًا في الشريعة الإسلامية على أحسن الصور وأفضل الوجوه، ولولا الإطالة لأتيت بطائفة أخرى من المبادئ والنصوص المقررة لها.
وهكذا يتبين أن الادعاء بعدم صلاحية الشريعة ادعاء أساسه الجهل بالشريعة، ولا سند له من الواقع المحسوس، ولعل العذر الوحد الذي يمكن أن يعتذر به لأصحاب هذا الادعاء أنهم تعلموا أن القوانين الوضعية القديمة كانت تقوم على مبادئ بالية ينكرها العصر الحاضر، فحفظوا هذا القول على أنه قاعدة عامة وطبقوه على الشريعة، لانطباق صفة القدم عليها دون أن يفكروا فيما بين الشريعة والقوانين من فروق بيناها فيما سبق.
___________________________________
من كتاب «الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه».