هذا هو المقال الثاني من سلسلة «الأسس النفسية للتأثير الدعوي»، وقد تحدثنا في المقال السابق عن الأساس الأول وهو بعنوان «مرونة النفس الإنسانية»، أما الأساس الثاني فهو بعنوان «الارتباط بين العاطفة والسلوك».
والمقصود بالارتباط بين العاطفة والسلوك «أن ما يقوم به الإنسان من أعمال وأنشطة ناتج عن العاطفة القلبية التي تؤثر في النفس وتحركها».
التأصيل الشرعي:
إن الناظر إلى الواقع الإنساني يجد أن التغيرات الجسدية تأتي تبعًا للعاطفة القلبية، ويؤكد هذا المعنى ما فعله نبي الله موسى عليه السلام، حين رجع إلى قومه فوجدهم يعبدون العجل من دون الله، فغضب وظهر الغضب في وجهه وقوله وسلوكه، ويبين هذا قوله تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 150)، ففي الآية تأكيد على الارتباط السلوكي بين النفس والجسم، فقد ظهر الأسف في وجهه، وقال: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ)، ثم تحرك جسدياً فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولما هدأت نفسه ظهر ذلك أيضاً في سلوكه، فأخذ الألواح التي ألقاها، وفي هذا يقول تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف:154)، وهكذا يتبين أن العاطفة حين تسيطر على الإنسان تتحكم في سلوكه.
كما بيَّنت السُّنة النبوية أن القلب هو ملك الجوارح، وأن صلاحه صلاحها، وفساده فسادها، فعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «.. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وهي القلب»(1)، ففي الحديث تأكيد على أن «صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب»(2).
ومن التطبيقات العملية للارتباط بين العاطفة والسلوك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حين قالت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: «أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لا ورب محمد، وإذا كنت غَضْبَى، قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ»(3).
فالعاطفة المستقرة في القلب هي منبع الطاقة والقوة المحركة لسلوك الإنسان، وهي التي توجه هذا السلوك إلى طريق الخير أو الشر.
التوظيف النفسي:
أكّدت الدراسات العلمية أن “كل نشاط جسمي يصحبه نشاط نفسي ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً»(4)، فأعمال الإنسان مرتبطة بما يدور في نفسه، ويدل على هذا ما نراه في الواقع من تغيير ناتج عن العاطفة، فالسرور العاطفي ينتج عنه ضحك جسدي، والحزن العاطفي ينتج عنه بكاء جسدي، والشوق العاطفي ينتج عنه إقبال جسدي، والبغض العاطفي ينتج عنه نفور جسدي.. وهكذا، لا تتوقف العاطفة القلبية عن توظيف السلوك الإنساني.
ولهذا كان «من القواعد النفسية في تعديل السلوك الإنساني أن تمنح الآخرين عاطفة قبل القواعد والأنظمة(5)، فإذا امتلأت النفس بالعاطفة أنتجت سلوكاً في المسار المناسب لها.
التوظيف الدعوي:
إذا أدرك الداعية الدور الفعّال الذي تقوم به العاطفة في توجيه السلوك الإنساني؛ فإنه يسارع إلى الانطلاق من هذه الركيزة إلى فهم العواطف القلبية والتعايش معها، ثم يسعى إلى تهذيبها والسمو بها في معارج الكمال.
ويمكن تطبيق ذلك عملياً في مجال الدعوة من خلال الاعتراف بعاطفة الحب الغريزي بين الرجل والمرأة، وبين الأهل والأصدقاء، ثم ينطلق من هذه العاطفة نحو حب القيم الفاضلة مثل الخير والحق والعدل بين الناس، ثم يسمو بهذه العاطفة إلى حب الله تعالى، وهذا كله من أجل توظيف هذه العاطفة في ضبط السلوك الإنساني وتوجيهه نحو الصراط المستقيم.
كما يمكن التوظيف الدعوي للعاطفة القلبية من خلال امتلاك الداعية عاطفة المحبة لمدعويه والخوف عليهم، والإنفاق من هذه العواطف على الناس قبل ممارسة التوجيه الدعوي، فإذا أحب الناسُ الداعيةَ واستشعروا حبه لهم وخوفه عليهم؛ فإنهم يستجيبون له ويفعلون ما يأمرهم به، لأن المحبَّ لمن يحب مطيع.
الدليل على التأثير الناجح:
لقد أثبت القرآن الكريم أن العاطفة منبع السلوك، وأنها توجهه في مسارها الذي تتحرك فيه، قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس: 98)، ففي قصة سيدنا يونس عليه السلام، نجد أنه دعا قومه إلى الله تعالى، فرفضوا دعوته، فظل يدعوهم تسع سنين فلم يستجيبوا، فلما يئس من إيمانهم، أوحى الله تعالى إليه أن أخبرهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام، فراقبوه حتى وجدوه قد خرج من بينهم، فخافوا، وتابوا، ودعوا الله عز وجل، ولبسوا المسوح، وردوا المظالم، فكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب(6).
والناظر في هذا الموقف يجد أن قوم سيدنا يونس عليه السلام، عندما خافوا واستشعروا الخطر (وهذه هي العاطفة) تابوا وردوا المظالم إلى أهلها (وهذا هو السلوك)، فقد أسهمت العاطفة القلبية في تغيير السلوك العملي إلى الأفضل.
كما أكدت السُّنة النبوية ذلك في حديث الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الإذن في الزنى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم..»(7)، ففي هذا الموقف بيان لدور الداعية في توظيف العاطفة لضبط السلوك، حيث بغَّض النبي صلى الله عليه وسلم الزنى إلى قلب الشاب، فلما كرهه استقام سلوكه.
إن العاطفة القلبية تقود السلوك الإنساني في المسار الذي تتشبع به، ويعتبر هذا أساساً نفسياً يقوم الداعية من خلاله بالاعتراف بالعواطف الإنسانية للمدعوين والسمو بها في مراقي الكمال، كما ينطلق في دعوته من دافع الحب لكل خير والبغض لكل شر، ويُقدِّم بين يدي سلوكه عاطفة تعبر عن هدفه وغايته.
___________________________
(1) متفق عليه: البخاري، (1/ 29 رقم 1946)، ومسلم: (3/ 1220 رقم 1599).
(2) شرح النووي على مسلم: (11/ 29).
(3) متفق عليه: البخاري، (5/ 2004 رقم 4930)، ومسلم، (4/ 1890 رقم 2439).
(4) علم النفس التربوي: هناء حسين الفلفلي، ص 32.
(5) تعديل السلوك الإنساني: يافا وائل عبد ربه، ص 58.
(6) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، (8/ 384).
(7) أخرجه أحمد، بإسناد صحيح، (36/ 545 رقم 22211).