يعتبر جيل الصحابة أفضل جيل مشى على الأرض بإطلاق، فهو الذي عايش النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهَد التنزيل، وحضر المشاهد، وعاصر نزول الوحي، وأثنى عليه الله تعالى، وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان فيه نفخة روحية ربانية نبوية إيمانية، استقاها من مجموع هذا فنصبَتْه على عرش القدوة والسيادة والريادة للأجيال اللاحقة.
وإن التأمل في حال هذا الجيل من ناحية الإيمان الراسخ يجد عجبًا، وإن كانوا يتفاضلون في ذلك درجاتٍ ومدارجَ، حتى إن بعض العلماء تحدث عن أن كل واحد منهم يفضل على أي أحد ممن أتوا بعدهم، قال ابن تيمية: «إن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة»، وهذا مأثور عن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر، وعدل عمر بن عبدالعزيز أظهر من عدل معاوية، وهو أزهد من معاوية، لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبدالعزيز: أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم.. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه، إذ المقصود هنا أن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى(1).
طبيعة الإيمان في قلوب الصحابة
إن الإيمان كان في قلوب الصحابة أرسخ من الجبال، وأثبت من الرواسي، وأوضح من ضوء الشمس، حتى شهد بعضهم لبعض بذلك، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، شهادات عامة وشهادات خاصة.
فمن شهاداته العامة لهم ما جاء عن أنس بن مالك، وعبدالله بن أبي أوفى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعُوا لِي أصحابِي، فوالذِي نفسِي بيدِهِ لوْ أنفقتُمْ مِثلَ أُحُدٍ ذهَبًا ما بلغتُمْ أعمالَهُمْ»(2).
وله شهاداته لكل صحابي ملأ بها أهل السنن والصحاح والجوامع والمسانيد كتبهم، وخصصوا لها أبواباً عرفت في هذه الكتب باسم «فضائل الصحابة»: «فضل فلان».. إلخ.
بل شهد بعضهم لبعض، وشهادةُ الأقران تدل على الصفاء الإيماني، والانشراح الصدري، والرسوخ الأخوي؛ فقد يحجم الإنسان عن مدح أخيه، أو يشعر بأن هذا سينتقص من قدره، ولكن النفوس العظيمة –والصحابة أعظمها– تشعر بأن امتداح الآخرين زيادة في قدرهم وعلو من شأنهم، وليس انتقاصاً منهم على الإطلاق!
فهذا عمر بن الخطاب يقول عن أبي بكر، رضي الله عنهما: «لوْ وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ بإيمانِ الناسِ لرجحَ إيمانُ أبي بكرٍ»(3)، وعن قتادة قال: سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبي يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال»(4)، وعن أبي بحرية الكندي أن عمر بن الخطاب خرج ذات يوم فإذا هو بمجلس فيه عثمان بن عفان، فقال: وإن منكم لرجلاً لو قُسم إيمانه بين جند من الأجناد لوسعهم؛ يريد عثمان بن عفان(5).
من أين جاء هذا الإيمان؟
والجواب الواضح أنهم صناعة ربانية، وخريجو المدرسة المحمدية، كيف لا، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم تربية الله العلي الكبير؟ فإن الله تعالى قد اصطفاه من خلقه، وصنعه على عينه، وأرسله رحمة للعالمين، واستخلص منه حظ الشيطان، وأثنى على خُلقه وسمعه وبصره في كتابه، واستحفظه عنايته ورعايته فقال له: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطور: 48)؛ أي فإنك على سمعنا وبصرنا، وفي كنف عنايتنا ورعايتنا.
والوجه الآخر الذي ربى هذا الإيمانَ في قلوب الصحابة هو أنهم مارسوا الإسلام واقعًا حيًّا، وطقسًا عمليًّا، فلم يكتفوا بأداء الشعائر والعبادات المعلومة فقط، وإنما نقلوا هذا النور إلى الناس، فبلّغوا الدعوة وأقاموا الحجة ودفعوا الشبهة، ونزلوا الميدان، فصابروا وصبروا، وجاهدوا وثبتوا، ورابطوا وقاموا لله مثنى وفرادى، فأخلصوا دينهم لله، وقصدوا بكل أعمالهم وجه الله، فكانت حياتهم نوراً على نور، وكان جهادهم مبروراً، وكانت خاتمتهم حسنى، وذلك هو الفوز العظيم.
كيف رباهم النبي على هذا الإيمان؟
وإذا كان هذا هو رصيد الإيمان في قلوبهم كما أثبته لهم النبي، وأثبته بعضهم لبعض، بل إنني أقول: إن القرآن الكريم قد شهد لهم بالإيمان، فقال عن الأنصار: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ (الحشر: 9)، هذا المستوى الكبير من المحبة الخالصة والإيثار الصادق لا يكون إلا من آثار الإيمان.
إذن، كيف رباهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه التربية، وكيف تعهد الإيمان في قلوبهم؟ هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة:
أولاً: السؤال عن حالهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه بسؤالهم عن حالهم إذا لقيهم، وبالسؤال عنهم إذا غابوا؛ فعن الحارث بن مالك الأنصاري أنّ النبيَّ ﷺ قال له: «كيف أصبحتَ يا حارثةُ؟»، قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال: «انظُرْ ما تقولُ، فإنّ لكلِّ قولٍ حقيقةً»، قال: يا رسولَ اللهِ، عزفتْ نفسي عن الدنيا، فأسهَرتُ لَيلي، وأظمَأْتُ نهاري، وكأني أنظرُ إلى عرشِ ربي بارزًا، وكأني أنظرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ كيف يتزاوَرون فيها، وكأني أنظرُ إلى أهل النارِ كيف يتعاوَوْنَ فيها، قال: «أبصرْتَ فالزَمْ، عبدٌ نوَّرَ اللهُ الإيمانَ في قلبِه»(6).
والحال المقصودة هنا هي حال الإيمان، وليس شيئاً آخر، ولهذا حين سأل حارثة عن حاله، لم يخبره عن المتاع والزوجات والأولاد، وإنما أجابه عن إيمانه وحال هذا الإيمان؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأله عن إيمانه، وليس شيئاً من متاع الدنيا.
ثم لا يخفى ما في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن كل واحد من اهتمام وتقدير ينعكس على نفسيته بالاستقامة وتحصيل أسباب الإيمان، وهذا هو منهج العظماء.
ثانياً: تخوُّلُهم بالموعظة:
ومن أساليبه في تربيته لأصحابه أنه كان يتخولهم بالموعظة، فبين الحين والآخر كان يعظهم ويرقق قلوبهم؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «كانَ النبيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنا بالمَوْعِظَةِ في الأيّامِ، كَراهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا»(7).
وعن العرباض بن سارية قال: وعظَنا رسولُ اللهِ ﷺ مَوعظةً بليغةً فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، كأنّ هذِه موعظةُ مودِّعٍ فماذا تعهدُ إلينا؟ فقالَ: «أوصيكم بالسَّمعِ والطّاعةِ، فإنّ مَن يعِش منكم سَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الرّاشدينَ المَهديِّينَ، تمسَّكوا بِها وعضُّوا عليها بالنَّواجذِ وإيّاكم ومُحدثاتِ الأمورِ فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ»(8).
وقد عبر الصحابي الجليل حنظلة بن حذيم الحنفي عن الحالة التي كان يشعر بها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لَقِيَنِي أبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أنْتَ؟ يا حَنْظَلَةُ قالَ: قُلتُ: نافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحانَ اللهِ ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يُذَكِّرُنا بالنّارِ والجَنَّةِ، حتّى كَأنّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإذا خَرَجْنا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عافَسْنا الأزْواجَ والأوْلادَ والضَّيْعاتِ، فَنَسِينا كَثِيرًا، قالَ أبُو بَكْرٍ: فَواللَّهِ إنّا لَنَلْقى مِثْلَ هذا، فانْطَلَقْتُ أنا وأَبُو بَكْرٍ، حتّى دَخَلْنا على رَسُولِ اللهِ ﷺ، قُلتُ: نافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وما ذاكَ؟»، قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنا بالنّارِ والجَنَّةِ، حتّى كَأنّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإذا خَرَجْنا مِن عِندِكَ، عافَسْنا الأزْواجَ والأوْلادَ والضَّيْعاتِ، نَسِينا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لو تَدُومُونَ على ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ على فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، ولَكِنْ يا حَنْظَلَةُ ساعَةً وساعَةً ثَلاثَ مَرّاتٍ»(9).
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يصف قلبه وقلوب الصحابة حين يرون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون إليه، يقول: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنّا إذا كنّا عندك رقَّت قلوبُنا وزَهِدنا في الدُّنيا ورَغِبنا في الآخرةِ، فقال: «لو تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لزارتكم الملائكةُ ولصافحتكم في الطُّرقِ ولو لم تُذنِبوا لجاء اللهُ بقومٍ يُذنبون حتّى تبلُغَ خطاياهم عِنانَ السَّماءِ فيستغفروا اللهَ فيَغفرَ لهم على ما كان منهم ولا يُبالي»(10).
ففي هذه الأحاديث يتبين كيف كان يتخولهم بالمواعظ المرققة للقلوب، وكيف كانت تبلغ بهم هذه المجالس، وكيف تصل بمستوى الإيمان في قلوبهم، كيف لا والمربي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علمه ربه ورباه ورقاه ونماه؟
_________________________________
(1) منهاج السُّنة النبوية: 6/ 226-227، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1406هـ/ 1986م، والحديث أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540) عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3386).
(3) أورده العجلوني في كشف الخفاء 2/ 216، وقال: إسناده صحيح.
(4) رواه عبد الرزاق في مصنفه: 11/ 327، رقم (20671)، والخلال في السنة (1081).
(5) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 39/ 219، و45/ 453.
(6) أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم 1/ 127، روي من وجوه مرسلة ومتصلة والمرسل أصح.
(7) أخرجه البخاري في صحيحه: رقم (68).
(8) أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676).
(9) أخرجه مسلم في صحيحه، رقم (275).
(10) أخرجه الترمذي (2526)، وهو حديث غريب.