الدين كله خلق، وقد قيل: من زاد عليك في الحلق زاد عليك في الدين، والغاية من الرسالة المحمدية هي الأخلاق، وإن هناك علاقة قوية بين الإيمان والخلق الحسن، فالإيمان يُثمر حسن الخلق، وحسن الخلق يقود إلى الإيمان.
ولقد شهد كلُّ من تعامل مع النبي عليه الصلاة والسلام بحسن الخلق، ولا أدل على ذلك من الكلمة التاريخية التي سجلها التاريخ عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها حين نزلت عليه سورة «العلق» أول ما نزل من القرآن، تقول الرواية: «فَرَجَعَ بها –يعني بالسورة الكريمة- رَسولُ اللهِ ﷺ تَرْجُفُ بَوادِرُهُ، حتّى دَخَلَ على خَدِيجَةَ، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، ثُمَّ قالَ لِخَدِيجَةَ: أيْ خَدِيجَةُ، ما لي وأَخْبَرَها الخَبَرَ، قالَ: لقَدْ خَشِيتُ على نَفْسِي، قالَتْ له خَدِيجَةُ: كَلّا أبْشِرْ، فَواللَّهِ، لا يُخْزِيكَ اللهُ أبَدًا، واللهِ، إنّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوائِبِ الحَقِّ».
ولو تأملنا فيما سردته السيدة خديجة لوجدناه أخلاقاً كله، بل أخلاقاً اجتماعية تجسد حقيقة رسالة الإسلام، وحبه للحياة، وحضه على عمل الخير ونفع الغير وخير العمل.
وها هو خادمه أنس الذي خدمه عشر سنين، وهو غلام، والغلام يتوقع منه الخطأ والتواني والنسيان، يقول رضي الله عنه عن خلق حبيبه وحبينا صلى الله عليه وسلم: قدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ وأنا ابنُ ثماني سنين، فأخَذت أُمِّي بيدي فانطلَقَت بي إليهِ، فقالَت: يا رسولَ اللهِ، لَم يبْقَ رجلٌ ولا امرأةٌ مِن الأنصارِ إلّا أتحفَك بتُحفةٍ، وإنِّي لا أقدِرُ على ما أُتْحِفُكَ بهِ إلّا ابني هذا، فخُذْهُ، فليَخدُمْكَ ما بَدا لكَ، قالَ: فخدَمتُه عَشرَ سنينَ، فما ضَربَني ولا سبَّني، ولا عبَسَ في وجهي.
هذه هي الأخلاق النبوية التي أثرت في جيل كامل، ولا تزال تفعل فعلها في حياة الأمة حتى اليوم، بل في حياة البشرية كلها، يمحو الله بها من الأخلاق السيئة، ويثبت بها من الأخلاق الرفيعة ما شاء من محو ومن إثبات، إلى قيام الساعة، وهو دليل على رسوخ هذه الأخلاق، وأنها حقاً من صنع الله العلي الكبير.
رسم الصورة الذهنية الإيمانية عنهم لديهم
ومن هديه صلى الله عليه وسلم في ترسيخ الإيمان في نفوس أصحابه أنه كان يرسم لكل واحد منهم صورة ذهنية إيمانية عن نفسه، فها هو يقول عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ” فَكانَ بَعْدُ لا يَنامُ مِنَ اللَّيْلِ إلّا قَلِيلًا».
فحين رسم النبي صلى الله عليه وسلم عند عبدالله رضي الله عنه صورته الذهنية التي يجب أن يرى نفسه عليها إيمانيًّا، استحيا من نفسه، ونزل على هذه الصورة المرسومة، وكان لا ينام بعدها من الليل إلا قليلاً، كما قالت الرواية.
خامساً: العلاج الإيماني الجماعي الحاسم الحكيم للظواهر السلبية:
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه إذا رأى ظاهرة تخالف حقائق الدين فزع إليهم وحشدهم في صعيد واحد ليعالج الظاهرة إيمانياً حكيماً، ويقضي على المقولات التي تتسرب في المجتمع وتنتشر، فتترك فيه آثاراً سلبية.
من ذلك ما ورد عن أنَسٍ، أنّ نَفَرًا مِن أصْحابِ النبيِّ ﷺ سَأَلُوا أزْواجَ النبيِّ ﷺ عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لا أنامُ على فِراشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وأَثْنى عليه، فَقالَ: «ما بالُ أقْوامٍ قالوا كَذا وكَذا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وأَنامُ، وأَصُومُ وأُفْطِرُ، وأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي».
وفي حادثة الأنصار حين وجدوا على أنفسهم بعد غزوة حنين؛ حيث قُسمت الغنائم ولم يعطِ النبي منها للأنصار شيئاً، فعن أبي سعيد الخدري قال: لمّا أعطى رسولُ اللهِ ﷺ ما أعطى مِن تلك العطايا في قُرَيشٍ، وفي قبائلِ العرَبِ، ولم يكُنْ في الأنصارِ منها شيءٌ، وجَد هذا الحيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهم حتى كثُرتْ فيهم القالَةُ، حتى قال قائلُهم: لَقِي واللهِ رسولُ اللهِ ﷺ قومَهُ، فدخَل عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنّ هذا الحيَّ مِن الأنصارِ قد وجَدوا عليك في أنفسِهم لِما صنَعْتَ في هذا الفَيْءِ الذي أصَبْتَ، قسَمْتَ في قومِك، وأعطَيْتَ عطايا عِظامًا في قبائلِ العرَبِ، ولم يكُنْ في هذا الحيِّ مِن الأنصارِ منها شيءٌ، قال: «فأين أنتَ مِن ذلك يا سعدُ؟»، قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلا مِن قَوْمي، قال: «فاجمَعْ لي قومَك في هذه الحظيرةِ»، قال: فجاء رجالٌ مِن المهاجِرِينَ، فترَكهم فدخَلوا، وجاء آخَرون فرَدَّهم، فلمّا اجتمَعوا أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمَع لك هذا الحيُّ مِن الأنصارِ، فأتاهم رسولُ اللهِ ﷺ، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه بما هو أهلُهُ، ثم قال: «يا مَعشَرَ الأنصارِ، ما قالَةٌ بلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وجَدْتُموها في أنفسِكم؟ ألم آتِكم ضُلّالًا فهداكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي، وأعداءً فألَّف اللهُ بين قلوبِكم؟»، قالوا: اللهُ ورسولُهُ أمَنُّ وأفضَلُ، ثم قال: «ألا تُجِيبوني يا مَعشَرَ الأنصارِ؟»، قالوا: بماذا نُجِيبُك يا رسولَ اللهِ؟ للهِ ولرسولِهِ المَنُّ والفضلُ، قال: «أما واللهِ لو شِئْتُم لقُلْتُم، فلَصدَقْتُم ولَصُدِّقْتُم: أتَيْتَنا مكذَّبًا فصدَّقْناك، ومخذولًا فنصَرْناك، وطريدًا فآوَيْناك، وعائلًا فآسَيْناك، أوجَدْتُم عليَّ يا مَعشَرَ الأنصارِ في أنفسِكم في لُعاعةٍ مِن الدُّنيا، تألَّفْتُ بها قومًا ليُسلِموا، ووكَلْتُكم إلى إسلامِكم؟ ألا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنصارِ أن يَذهَبَ الناسُ بالشاءِ والبعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ إلى رحالِكم؟! فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ، لَما تنقلِبون به خيرٌ ممّا ينقلِبون به، ولولا الهجرةُ لكنتُ امرأً مِن الأنصارِ، ولو سلَك الناسُ شِعْبًا وواديًا، وسلَكتِ الأنصارُ شِعْبًا وواديًا، لسلَكْتُ شِعْبَ الأنصارِ وواديَها، الأنصارُ شِعارٌ، والناسُ دِثارٌ، اللهمَّ ارحَمِ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ»، قال: فبكى القومُ حتى أخضَلُوا لِحاهم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ ﷺ قِسْمًا وحظًّا، ثم انصرَف رسولُ اللهِ ﷺ وتفرَّقوا.
فانظر إلى هذه الطريقة في العلاج، طريقة جماعية؛ حتى لا يستفحل المرض ويستعصي على العلاج أو يفوت أحداً من المجتمع، ففيه قطع لدابر الفتنة من جذرها، وطريقة حاسمة بما يقطع القيل والقال والنجوى في المجتمع، وطريقة إيمانية؛ حيث تجدد الإيمان في القلوب، وتضاعفه في النفوس، وطريقة حكيمة خبيرة بالنفوس لطيفة بها تعلم من أين تؤتى وكيف تستجيب.
هذه معالم سريعة –مجرد معالم– للإيمان عند الصحابة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ترسيخه عندهم، حري بالمربين أن يسلكوها مع من يربونهم، وجدير بالآباء والأمهات أن يعتمدوها مع أبنائهم، وكذلك الدعاة مع من يدعونهم، فأحسنُ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.