ثانياً: بطلان دعوى الحق الديني
ويزعم اليهود أن لهم حقًا دينيًا في فلسطين، يقول الشيخ عبدالمعز: حدثنا الإمام فقيد الإسلام محمد أمين الحسيني، مفتي فلسطين رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، رحمه الله، قال: كنت أرد زيارة للمندوب البريطاني حاكم فلسطين، فقال لي: إن أمي علمت بوجودك وتود مقابلتك، فقلت له: أهلاً وسهلاً، وجاءت العجوز، فكان أول ما قالته لي: أرجوك ألا تقف ضد إرادة الرب، فقلت لها: يا سيدة، ومن يستطيع أن يقف ضد إرادة الرب؟ قالت: أنت، قلت لها: كيف؟ قالت: لأنك لا تريد أن تعطي اليهود الأرض التي أعطاها الله لهم، قلت: إنها أرضي وبيتي وكيف يعطيها الله لهم وأنا أين أذهب؟ قالت: إنها إرادة الله! ولما انتهت المقابلة قلت لابنها: إن والدتك طيبة متأثرة باليهود، قال: لا، بل نحن البروتستانت نؤمن بهذا والأناجيل تبشر به.
ولما أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض عام 1939م تحدد فيه أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين ثار اليهود وسيروا المظاهرات في عواصم أوروبا تهتف: الكتاب المقدس لا الكتاب الأبيض يعطينا الحق في فلسطين.
وقفة متأنية لمناقشة الدعوى اليهودية
وأحب أن أقف وقفة متأنية أمام ما زعمه كتبة «العهد القديم» من نصوص تقول: إن الله وعد إبراهيم عليه السلام بأن يعطي لنسله أرض فلسطين، وكذلك وعد ابنه إسحاق، ووعد حفيده يعقوب الذي سمَّوْه «إسرائيل»، وعلى هذا الأساس سموا هذه الأرض «أرض الميعاد»، في هذه الوقفة نسأل عدة أسئلة:
– من هم نسل إبراهيم؟
أولاً: ما المقصود بنسل إبراهيم عليه السلام: أهم أبناؤه من صلبه أم هم أبناؤه الروحيون؟ أعني: الذين يتبعون ملَّته، وينهجون نهجه، ويهتدون بهداه؟ أما أبناؤه وأحفاده من صلبه، فهم -مثل أبيهم إبراهيم- لم يملكوا من هذه الأرض شبرًا واحدًا، فما المقصود بالأبناء إذن؟
إن المنطق الملائم للنبوة وللخُلة التي تميز بها إبراهيم خليل الله: أن يكون أولى لناس به من آمن به واتبع هداه، وهذا ما ذكره القرآن حين قال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ) (آل عمران: 68)، وقال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
بينت الآية أن الإمامة لا تنتقل بالوراثة، وأن الظالمين لا يستحقون عهد الله، لأن ما عند الله ينال بالأعمال لا بالأنساب كما قال رسول الإسلام: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».
وقد برئ إبراهيم من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، كما برئ من قومه لما كفروا بالله، كما قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4).
– أليس إسماعيل من نسل إبراهيم؟!
ثانيًا: لو فرضنا أن المراد بنسل إبراهيم أولاده من صلبه، فلماذا حرم أبناء إسماعيل بكره وولده الأول؟ ولماذا انحاز الله -الحكم العدل- إلى بني إسرائيل ضد بني إسماعيل؟!
لقد ذكرت التوراة -في سفر التكوين- أن «إسماعيل بن إبراهيم» في أكثر من اثني عشر موضعًا.
إلا أن الإسرائيليين يقولون: إن إسماعيل ابن الجارية هاجر، وإسحاق ابن الحرة سارة، ولكن أليس كلاهما كان ابن إبراهيم؟ وكلاهما نبيًا رسولاً من عند الله؟ وهل يحرم أولاد الرجل ميراثهم من أبيهم بسبب أمهاتهم؟
وهنا سؤال آخر مهم -سأله لهم د. حسان حتحوت- عن أبناء إسرائيل يعقوب الاثني عشر، فقد ذكرت التوراة أن إسرائيل تزوج ابنتي خالته: راحيل، وليئة، جاريتيهما: زلبا، وبلحا، وقد ولدت الجاريتان سنة من أبناء إسرائيل، فلما اعتبرتموهم من بني إسرائيل، ولم تنقصوا من بنوتهم مثقال ذرة؟ وهنا لا يجدون جواباً.
هذا، وقد استمر التسري بالجواري في بني إسرائيل، فقد ذكرت أسفار العهد القديم أن داود كان له مائة زوجة ومائتان من الجواري، وأما ابنه سليمان فكان له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة جارية، ولا نزاع في أن هؤلاء الجواري أنجبن أولاداً لداود وسليمان، ولا ريب أن أولاد هؤلاء السراري من بني إسرائيل، فما يقول اليهود في ذلك أيضًا؟
– أين عدل الله؟!
ثالثًا: كيف يعطي الله -الحكم العدل، الذي حرم الظلم على نفسه، وحرمه على عباده- أرضًا يملكها أصحابها ملكًا شرعيًا مستقرًا، لفئة من الناس، هم دخلاء على هذه الأرض، غرباء عنها؟ وأين عدل الله تعالى وقسطه، وهو يحب المقسطين، ولا يحب الظالمين؟
– وعد مشروط لم يف اليهود بشرطه:
رابعًا: هل هذا الوعد -إن صح- بمنح هذه الأرض: وعد مطلق أو وعد مشروط؟ وإذا كان مشروطًا فهل تحققت شروطه؟
الذي يقرأ «الكتاب المقدس» عند النصارى، وخصوصًا أسفار العهد القديم، يجد أن وعد الله تعالى لبني إسرائيل إنما هو وعد مشروط، بأن ينفذوا التعاليم، ويحفظوا العهد، ويصونوا أوامر الرب ونواهيه، حتى يكونوا أهلاً لنصر الله وتمكينه، وهذا هو المعقول والملائم للعدالة الإلهية والحكمة الربانية، فإن الله لا يعامل الناس بأنسابهم، بل بأعمالهم.
واستنادًا إلى نصوص توراتية من الكتاب المقدس، يتضح أنه ومنذ أيام موسى ويوشع بعده، ثم إيلياه وأرميا وعزرا ونحميا وميخا ويوحنا المعمدان، وأخيرًا في زمن يسوع المسيح، خرقت -من جانب واحد- شروط وأسس وبنود «العهد» الذي أبرم بين الله تعالى وإبراهيم، خرقت مرارًا ومرارًا، وفي عصور كثيرة.
– منطق القرآن: الأرض يرثها الصالحون
لقد كانت الأمة الإسلامية هي الأمة المؤهلة لوراثة أرض النبوات، وتحقيق وعد الله لإبراهيم في أن يعطي هذه الأرض لنسله -إن صحت هذه النبوءة- فها هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم، بل ها هم أبناء إبراهيم الروحيون، الذين هم أولى الناس به، واتبعهم لملته، قد ورثوا الأرض وقاموا بحقها، وأقاموا فيها العدل والإحسان، أربعة عشر قرنًا من الزمان، وهم أصحاب الأرض وأهلها، وهم باقون فيها إن شاء الله حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ووجودهم في هذه الأرض هو الوجود الشرعي الوحيد الذي يقره الله ورسله والمؤمنون، وكل المنصفين من عباد الله، وأما وجود الصهاينة فهو وجود دخيل غاصب معتد أثيم، يستحيل أن يدوم، فهو حتمًا إلى زوال، وما ربك بغافل عما يعملون؛ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227).
____________________________________
المصدر: كتاب «القدس قضية كل مسلم» لفضيلة الإمام د، يوسف القرضاوي رحمه الله.