إن مما يميز العلوم الشرعية في تأصيل قواعدها أنها مستنبطة من الوحيين القرآن الكريم والسُّنة المشرفة، فما من قاعدة أصَّلها العلماء في كل فن من فنون العلم وتخصص من تخصصات الشريعة إلا ولها أصل يعتمد عليه في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
وقد لا يعرف الكثير من الناس وبعض من طلاب العلم أن قواعد العلوم من الممكن الاستدلال عليها من كتاب الله تعالى أو سُنة رسوله، وقد بين العلماء بعضاً من ذلك عند الحديث عن بعض هذه القواعد، فنجد، مثلاً، في علوم الحديث قواعد ومصطلحات وصور بالبحث والتحري نجد لها التأصيل الذي نعتمد عليه في القول بها والتأكيد عليها وإقرارها، وإن كان يشكل على هذا الطرح عدم تنصيص العلماء المحدثين على كل القواعد التي سطرت في مقررات علم الحديث بمرجعية أخذها وتقريرها ودلالة مشروعيتها، لكني أؤمن أن لكل قاعدة دلائل مشروعيتها وتأصيلها، إذ إن المحدثين لم يكونوا بمعزل عن الدليل في تأصيل قواعدهم نصاً أو قياساً، وقد سطروا ذلك وإن لم يستقصوا.
فمثلاً عند الكلام على الجرح والتعديل نجد أن القرآن الكريم قد جرح وعدل المجموع والأفراد، وكذلك السُّنة المشرفة كما في حديثين مشهورين عند علماء الجرح والتعديل أكدا انطلاقة العلم وتأكيد قواعده، مثل حديث البخاري ومسلم عن ابن عمر، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» في دلالة التعديل، وحديث أم المؤمنين عائشة «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» في التجريح، كما نجد الاستدلال على مفردات العلم في أبوابه المختلفة كأبواب طرق التحمل والأداء، وجواز رواية الحديث بالمعنى، والتصحيح والتضعيف وكتابة الحديث وصفة روايته، وغير ذلك.
فنجد مثلاً أن المحدثين يستدلون على جواز العرض والقراءة على الشيخ بحديث ضمام ابن ثعلبة عند البخاري ومسلم من حديث أنس وفيه: فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ.. الحديث، وصورته أنه الذي عرض والنبي صلى الله عليه وسلم أقر، ومنه أخذ طريقة القراءة على الشيخ كأحد أوجه التحمل والأداء المقعدة في علوم الحديث.. وهكذا.
وبين يدي نموذج أستطيع أن أطرحه لتأكيد هذا التأصيل توضيحاً وبياناً: فقد أخرج أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ: كُنَّا نَخْدُمُ أَنْفُسَنَا، وَكُنَّا نَتَدَاوَلُ رَعِيَّةَ الْإِبِلِ بَيْنَنَا، فَأَصَابَنِي رَعِيَّةُ الْإِبِلِ فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ، فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ حَدِيثِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَغُفِرَ لَهُ»، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذَا! قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ بَيْنَ يَدِي: الَّتِي كَانَ قَبْلَهَا: يَا عُقْبَةُ أَجْوَدُ مِنْهَا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ يَا أَبَا حَفْصٍ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» (صحيح).
وهذا الحديث في حقيقته يضم جملة من القواعد التي استنبطها المحدثون في تقعيد العلم ومقررات فن المصطلح تخص ما يعرف بقواعد التحديث وصفة رواية الحديث، منها ما يتعلق بالشيخ، ومنها ما يتعلق بالطالب، ومنها ما يتعلق بالمجلس والرواية نفسها وهذا كله على النحو التالي:
أولاً: قواعد تتعلق بالشيخ:
منها: أهمية نشر العلم (ورواية الحديث) وعدم الكتمان، والتحديث بطريقة السماع؛ وهو أن يروي الشيخ من محفوظه أو كتابه والطالب يسمع، وكذلك جواز التحديث على كل حال، وأن يحدث قائماً، وفائدته: لحاجة التعليم، ولفت الانتباه، وإيصال المضمون، ورؤية الشيخ، وإسماع الجميع، وقوة وأهمية الموضوع، وشحذ الهمم، وغير ذلك، وكذلك جواز سرد الحديث رواية دون تعليق أو شرح (مجلس رواية فقط)، ومنها التحديث بتؤدة وروية وعدم التعجل ليسهل حمل الحديث عنه.. إلخ.
ثانياً: فيما يتعلق بالطالب:
منها: الحرص على حضور مجالس الحديث، وعدم التعلل بالأعمال والأشغال، وجواز استدراك الفوت من روايات المجلس من الطلاب والرواة الحاضرين أهل الثقة والتيقظ، وبيان صورة لرواية الأقران (من تساووا في السن والطبقة) بعضهم عن بعض كرواية عمر لعقبة، وبيان أدب طالب الحديث مع إخوانه ومن سبقه بذكره بكنيته تأدباً واحتراماً كقوله: «أبا حفص»، ومنها أهمية التبكير في مزيد التحصيل وعلو الإسناد والمباشرة في التحمل فعمر رضي الله عنه أعلى في حديث لتبكيره من عقبة رضي الله عنه مع وجود واتحاد مجلس الشيخ (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومنها كذلك جواز استفهام الطلاب من بعضهم وسؤال من سمع الشيخ عما فاته أو لم يسمعه، وجواز التعليق من التلميذ واستحسان ما يقوله الشيخ كما في قوله: «ما أجود هذا!»، وقول عمر: «التي كان قبلها أجود منها»، ومنها رواية صحابي عن صحابي في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان تفاوت التحميل في المجلس الواحد، ليس كل من حضر وعى جميع المجلس، وبيان تيقظ الرواة ونفي الغفلة والسهو، وصورة من صور الضبط وهو ضبط الصدر، وأهمية النقل والتبليغ بشرط تمام الضبط، وجواز التحديث بأحاديث الشيخ في مجلسه رواية واستذكاراً، وبيان زمن الرواية ودلائل ذلك في قوله: «قال قبل أن تأتي»، وغير ذلك
ثالثاً: ما يتعلق بالمجلس وصفة الرواية نفسها:
من ذلك: التحديث بأحاديث الباب الواحد، فالحديثان في صفة الوضوء، وعدم الإكثار من الأحاديث لتيسر التحمل، وجواز إطلاق التحسين والتجويد الجمالي على المتن، وهذا غير التحسين الاصطلاحي، ومنها البدء بالأحاديث القولية ثم الفعلية في المجلس الواحد، فالحديث القول يبين أذكار الوضوء والثاني يبين ما يقوم به العمل، وغير ذلك.
إنني أرجو أن ينبري علماء الحديث في استقراء السُّنة المشرفة بمقصد إبراز التقعيد لعلومها، وإني لأؤمن أن هذا الأمر محقق في بيان القاعدة وتسهيل فهمها على المتعلم والطالب الذي ربما يدفعه السؤال عن سبب تقعيد هذه القواعد أو بعضها، ومن أين انطلق المحدثون في تدوينها وتقريرها، كما أنها تفيد في بيان ربط العلوم علوم الآلة التي هي مفاتيح العلوم الشرعية بمتعلقاتها، فليس علماؤها بمعزل عن تقعيدها دون استدلال وبراهين، وحتى ما استدل به يمكن أن يضاف عليه من النماذج المتعددة لتأكيد القاعدة وبيان أوجهها وتوضيحها من أكثر من دليل، كما أن هذا يؤكد جمال الفهم والاستنباط الذي عليه علماء الأمة في وقت رماهم المبغضون والطاعنون بشبهات الحفظ والسرد دون الفهم والفقه، وحاولوا نفي قواعدهم زاعمين أنها اختراع منهم، وهذا بعيد وضرب من الجهل، فإذا كان تقعيد علوم اللغة جاء من أشعار العرب ولغتهم وأدبهم وشواهد القواعد في كل مسألة متضافرة متوافرة، فليس أقل من هذا جميع قواعد العلوم الشرعية وفي الصدر منها علوم السُّنة النبوية، ولعل الله من يقيض لهذا المشروع أهله وطلاب السُّنة الحاذقين.