شرف الأمة في رقي لغتها، ورقي لغتها في مسايرتها للعلوم والفنون، واتساعها لأن تخوض في بحث كل علم أو فن، وتشرح مسائله وإن بلغت في كثرتها وغموضها أقصى غاية.
كانت العلوم والفنون على اختلاف موضوعاتها قد وجدت من بيان اللغة العربية معيناً لا ينضب، فلم تلبث أن لبست من ألفاظ هذه اللغة وأساليبها حللاً ضافية.
ومن بين العلوم التي وجدت في اللغة العربية بغيتها في(1) علم الطب، فتقبلته وتقبلت كل ما يدخل فيه أو يتصل به من فنون.
وجد هذا العلم في اللغة أيام انتقاله إلى العرب مادة غزيرة، واستطاع أن يأخذ منها كل ما يسد حاجته، ويجعل العرب والمستعربين يتدارسونه بلسان عربي مبين.
انتقل هذا العلم إلى العرب وهم يعتزون بلغتهم، ويحرصون على أن تكون لغة العلم، كما كانت لغة السياسة والأدب والاجتماع، فالتفت علماء الطب إلى الألفاظ العربية التي وضعت لمعان تدخل في علمهم أو تتصل به من نحو أسماء العلل(2) وأسبابها، وأعراضها وأطوارها وآثارها(3)، وأسماء الأعضاء والأجزاء منها ظاهرة كانت أو باطنة، وأسماء ما يركب منه الأدوية من نحو النبات والمعادن والأحجار، وأسماء الأدوات التي يستعان بها على المداواة(4).
التفتوا إلى هذه الكلمات واستعملوا كثيراً منها في معانيها المعروفة في اللغة، ولعلي لا أكون مخطئاً إذا قلت: إن علم الطب قد وَجَدَ في اللغة العربية مدداً أكثر مما وجده غيره من العلوم المنقولة إليها، ووجد علماء الطب بعد ذلك المدد أصولاً في اللغة تسمح لهم بوضع مصطلحات لِمَعَانٍ طبية لم يتقدم للعرب أن وضعوا لها أسماء، مثل أصول الاشتقاق والمجاز والنقل؛ فصاروا يضعون مصطلحات زائدة على ما تكلمت به العرب في هذا العلم، وصارت كتب الطب تصدر في عبارات عربية فصحى.
فإذا ألقينا نظرة على كتب الطب المؤلفة فيما سلف بأقلام عربية فصيحة، وجدناها قائمة على كلمات مستعملة فيما وضعها له العرب من المعاني الطبية، وكلمات اشتقها أولئك الأطباء لمعان يتحقق فيها معنى الفعل الذي اشتقت منه، كما سموا العرض دليلاً؛ نظراً إلى مطالعة الطبيب إياه، ومعرفته ماهية المرض منه.
وكلمات نقلوها من معانيها المعروفة عند العرب إلى معان تربطها بتلك المعاني مناسبة، كما استعملوا الرسوب في كل جوهر أغلظ قواماً من المائية وإن لم يرسب.
قال ابن سينا في كتاب «القانون»: إن اصطلاح الأطباء في استعمال لفظة الرسوب والثقل قد زال عن المجرى المتعارف؛ لأنهم يقولون: رسوب وثقل، لا لما يرسب فقط، بل لكل جوهر أغلظ قواماً من المائية متميزاً عنها وإن طفا.
وكلمات صاغوها على مثال الإضافة كما قالوا: حمى الدق، وهي الحمى المعروفة «أنطيقوس».
أو على مثال تركيب الصفة والموصوف كما قالوا: الشريان الصاعد، والشريان النازل، أو على مثال النسب الذي يقصد به التشبيه، كما سموا أحد أنواع النبض الموجي؛ لأنه يشبه الأمواج، إذ يتلو بعضها بعضاً على الاستقامة مع اختلاف بينها في السرعة والبطء.
وقد نبه أبو علي ابن سينا في كتاب «القانون» على وجه تسمية الأمراض فقال: قد تلحقها التسمية من وجوه:
إما من الأعضاء الحاملة(5) لها، كذات الجنب، وذات الرئة، وإما من أعراضها، كالصرع، وإما من أسبابها، كقولهم: داء الأسد(6)، وداء الفيل(7)، وإما منسوباً إلى أول من يذكر أنه عرض له كقولهم: قرحة طيلانية منسوبة إلى رجل يقال له طيلانس، وإما منسوباً إلى بلدة يكثر حدوثه فيها كقولهم: القروح البلخية، وإما منسوباً إلى من كان مشهوراً بالإنجاح في معالجتها كالقرحة السيروتية، وإما من جواهرها وذواتها كالحمى والورم.
وتجدد لذلك العهد أسماء عربية لأدوات طبية، كأسماء آلات الكي والجراحة التي ذكرها أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي(8) في كتابه المسمى «التصريف»(9)؛ فإنه رسم في هذا الكتاب صور الآلات، وذكر لكثير منا أسماء مناسبة نحو: المكواة، والزيتونة، والمنشارية، والهلالية، والمسارية.
ودخل في مصطلحاتهم كلمات مولدة ككلمة «بحران» للتغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحادة، وكلمة «تفسرة» لماء المريض المستدل به على علته، يقال: أرسل فلان تفسرته إلى الطبيب، ونظر الطبيب في تفسرة المريض.
ومن أسباب أخذ علم الطب فيما سلف مكانة في اللغة الفصحى أن كثيراً من رجال هذا العلم كانوا قد درسوا اللغة العربية إلى أن صاروا من أئمتها، أو صاروا من كبار أدبائها، تجدون الحديث عن هؤلاء الرجال والتنبيه على رسوخهم في علم الطب واللغة، في كتب طبقات الأطباء، وطبقات اللغويين والأدباء، مثل الرئيس أبي علي الحسين بن سينا، برع في الطب، وأتقن الأدب، وبلغ في اللغة مرتبة عليا، وله في الطب مؤلفات كثيرة، منها كتاب «القانون»، وله مؤلف في اللغة يسمى «لسان العرب».
ومثل أبي بكر محمد بن أبي مروان بن زهر، فقد كان -كما قالوا- بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب عذب معين، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب(10).
ومثل محمد بن أحمد بن رشد؛ فقد جمع إلى الطب والفلسفة التضلع في علوم العربية، وله في الطب مؤلفات منها كتاب الكليات، وله في العربية الكتاب المسمى «الضروري».
ونرى طائفة ممن بلغوا في علوم الشريعة مرتبة الاستنباط، ولا يبلغ مرتبة الاستنباط في الشريعة إلا من كان له في علوم اللغة قدم راسخة قد برعوا في علم الطب، ومن هؤلاء الإمام أبو عبدالله محمد بن عمر المازري، كان يعد في طبقة المجتهدين، ودرس علم الطب وألف فيه، وقالوا في ترجمته: «كان يفزع إليه في الطب كما يفزع إليه في الفتوى»(11).
ولا عجب أن يقبل الفقهاء على علم الطب؛ فإنهم يرونه من العلوم التي رفع الشرع الإسلامي منزلتها، حتى أنهم بنوا كثيراً من الأحكام الشرعية على رعايته، واستعانوا في بيان الأوامر والنواهي بشيء من مسائله، ومثال هذا أن النبي صلوات الله عليه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بتراب».
والعلامة محمد بن رشد جد الفيلسوف ابن رشد أول من نبه، فيما بلغنا، على أن هذا الأمر مراعى فيه وجهة طبية، هي ما يخالط لعاب الكلب من مادة ضارة تعرض له عندما يصاب بداء الكلب، وإصابته بهذا الداء قد تكون خفية، فلا تظهر لكل ناظر(12).
فلولا أن علم الطب قد وقع فيما مضى بأيدي علماء اللغة ما ظفر هذا العلم بتلك المصطلحات التي ترتبط باللغة ارتباطاً محكماً.
_____________________________________________
(1) هكذا في الأصل، ولعل «في» زائدة (م).
(2) معظم أسماء العلل جاء على وزن فعال، نحو «صداع»، أو وزن فعل نحو «بهق».
(3) نريد من آثارها ما يعقبها من نحو «الندبة» لأثر الجرح بعد برئه ونحو «المهج» لحسن الوجه بعد علة.
(4) نحو «المتجر» لما يصب به الدواء في الفم، و«المسعط» لما يصب به الدواء في الأنف، و«الدسلم» لما يسد به الجرح من نحو الفتيلة.
(5) اشتق العرب من بعض الأعضاء أسماء العلل التي تصيبها وهي: القلاب لداء يصيب القلب، والكباد لداء يصيب الكبد، والنكاف لداء يصيب النكفتين وهما غدتان تكتنفان الحلقوم من أصل اللحى، والقوام لداء يصيب الشاة في قوائمها.
(6) الجذام؛ لأن وجه المبتلى به ليشبه وجه الأسد في كراهة منظره.
(7) زيادة في القدم والساق وسمي داء الفيل؛ لأن رجل المريض به تشبه رجل الفيل، ومن هذا القبيل اسم السرطان؛ فإنه في الأصل اسم لدابة نهرية وسمي به الداء المعروف؛ لأنه إذا كبر ظهر عليه عروق حمر وخضر تشبه أرجل الدابة التي تسمى السرطان.
(8) ذكره ابن حزم في رسالة أودعها مؤلفات الأندلسيين وقال: قد أدركته، وابن حزم توفي سنة 399هـ.
(9) طبع بالعربية واللاتينية في أكسفورد، وتوجد منه نسخة في دار الكتب المصرية.
(10) نفح الطيب للمقري.
(11) كتاب الديباج لابن فرحون.
(12) بداية المجتهد للحفيد الفيلسوف ابن رشد.