الكلمة الطيبة، وما أدراك ما الكلمة الطيبة! إن الكلمة الطيبة تشرح القلب وترتاح لها النفس عند سماعها لمئات المرات، حيث تسري إلى القلب؛ فتحدث إيقاعاً جميلاً وحساً رفيعاً مرهفاً؛ فيشعر القلب بالسرور والسعادة والراحة الأمان.
إن الكلمة الطيبة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (إبراهيم)، فجذورها طويلة، وثمارها حلوة وعواقبها جميلة، وكما يستفاد من الشجرة الطيبة المباركة ومن ثمرتها الإنسان والحيوان، كذلك الكلمة الطيبة تعطي ثمرتها السرور للنفس والأمان، والراحة والطمأنينة والسلام؛ فتنعشه وتريحه من عناء الحياة وكدرتها.
والكلمة الطيبة تكسب الأمير والملك، فبفضل الكلام الرقيق العذب المنبعث من العقل الرزين والقلب النظيف؛ تجعل صاحبها محبوباً لدى الأمراء والخلان والجيران والأحباب، فكان الكتاب والشعراء قديماً يعطون من كلامهم الموزون العذب وزنه دنانير ذهبية، أو دراهم فضية، أو عطايا غفيرة.
وتكسب الكلمة الطيبة قلوب النساء؛ فيستسلمن لصاحبها وترق قلوبهن؛ فهي لعمر الله السحر الحلال الذي يثبت دعائم الأسرة ويحافظ على كينونتها وبقاء العلاقة الزوجية متينة، لا تتزعزع أبداً، باقية وثابتة كالطود الشامخ.
وتجذب الكلمة الطيبة الأصدقاء وتجعلهم أوفياء، بل تنقذ النفوس من الهلاك والموت المحتم، وقد صدقت التجارب وذكرت الأخبار في كتب التاريخ والآداب والأبرار أن الإنسان القوي بعلمه والحكيم في تصرفاته وتدبيره جعل من كلامه الرزين وحكمته البليغة أداة وسبباً في إنقاذ البشرية من الحروب المهلكة والأسلحة الفتاكة المدمرة، فلم يغن جاه ولا مال في ذلك، لكن الكلمة الطيبة الحكيمة، وسحرها النفاث، وتأثيراتها العظيمة؛ هي من ساهمت في رقي الشعوب وازدهارها ورقيها، وبعث الأمل فيها، وساهمت في توقيف الحروب والفتن في كل مكان وزمن.
والكلمة الطيبة صدقة، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ يتصدق بها الإنسان ذو العقل الراجح القوي والقلب السوي لأخيه المهموم المكروب؛ فتحيي قلبه من جديد فيدب فيه النشاط والحيوية؛ فيضحى أقوى من الحديد.
وهي طريق للحسنات، ورفع للدرجات، ومحبة المخلوقات، ونيل رضا خالق الأرض والسماوات، والظفر بنعيم الجنات.
ومن الكلم الطيب ذكر الله قياماً وقعوداً، بكرة وعشية في الليل والنهار، وفي الحر والقر؛ فبذكر الله تطمئن القلوب وتشفى الصدور قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وقال عزّ وجل: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر: 10).
والكلمة الخبيثة (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم: 26)، فجذورها قصيرة وعواقبها جسيمة؛ فهي تنبعث من نفس خبيثة لا تحب الخير ولا الطيب من القول، فالكلمة الخبيثة ينفر منها القلب الصادق المطمئن فلا يطيق سماعها، ولا يتحملها، حتى كأنه يضرب عليه بمطرقة من حديد فتُؤلمه وتعذبه.
فكم من كلمة خبيثة قتلت نفوساً ظلماً وعدواناً، وهتكت أعراضاً؛ بل أضاعت رجالاً، وطلقت نساء، وشردت أطفالاً، وباعدت بين الأصدقاء والأحباب! وكم من كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة، وأفسدت عقولاً، وخربت بيوتاً، وفرقت بين الصديق وصاحبه، وبين الجار وجاره، وبين الوالد وولده، وبين المسؤول ورعيته وبين المعلم وتلميذه!
إن الكلمة الخبيثة كالحية تصيب من تشاء فتقتله بسمها النفاث القاتل، وهي طريق للسيئات والعقاب بلهيب السعير، والنزول إلى أسفل الدركات.
قل هل تستوي الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة؟! وهل تستوي النفس الطيبة مع النفس الخبيثة؟!
فالكلمة الطيبة أنور من القمرين وأحلى من العسل وأغلى من اللجين؛ فهي منارة للجاهل، وسراج الضال والتائه إلى الطريق المستقيم، وهي ترياق لكل سم يصيب النفس؛ فتمحو معالمه وتكسيه حلة أنيقة وعزيمة، تسري إلى أنحاء البدن؛ فيقف صاحبها قوياً عاملاً نشيطاً.
والكلمة الخبيثة سترجع وبالاً وهلاكاً على صاحبها أولاً قبل غيره، عاجلاً أم آجلاً؛ فهي كشعلة نار محترقة وستحرق قائلها يوماً ما، فالله يحب الطيبين ويبغض الخبيثين وصاحب الكلم الخبيث يناسبه صاحبه في الفعال والخصال قال تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور: 26).
والكلمة عنوان لصاحبها حين يتكلم خيراً أم شراً، وهو دليل لجوهره ومعدنه.
في هذا الحياة لا يمكننا الاستغناء عن الكلام داخل بيوتنا أو في المجتمع أو في شؤون حياتنا كلها، لكننا مسؤولون عن كل كلمة نتفوهها، فالبصير من وزن كلامه وهذّبه قبل إلقائه أو كتابته، والخاسر من تعجل أمره وألقى بالكلم دون تروٍّ أو أناة؛ فيقذف بعباراته من يشاء وربما ندم بعد ذلك، فهذا هو الأحمق الأرعن المتهور في قوله، فلسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه، قال عز وجل: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر.
وقال سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36).
فليكن الواحد منا ناشراً للكلم الطيب في كل أوقاته، وجعلها صدقة وهدية للقلوب المتعبة، وللمرضى والمكروبين؛ فالهدية ربما تُنسى ولا تدوم عينها، لكن الكلمة يبقى وقعها وأثرها مهما بلغ الإنسان من العمر، وهي بدون ثمن أو مقابل أو عناء.
قال لقمان الحكيم: «إن من الكلام ما هو أشد من الحجر وأنفذ من وخز الإبر وأمرّ من الصبر وأحرّ من الجمر وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها».
قال أحد الأدباء: أشد الناس بلاء وأكثرهم عناء من له لسان مطلق، وقلب مطبق، فهو لا يستطيع أن يسكت ولا يحسم أن يتكلم.
وقد أوصانا حبيبنا ونبينا عليه الصلاة والسلام باختيار الطيب من القول، فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (رواه البخاري ومسلم).
وقال أيضاً موصياً معاذاً بن جبل رضي الله عنه: «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟»، قلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»، ثم قال: «ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: «كف عليك هذا»، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُب الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
وعلينا أن نتقي الله في شبكات التواصل الاجتماعي فلا نلج إلا ما هو خير لنا؛ ولا نعلق على منشور إلا بصدق وبكلمات إيجابية، وإن أردت النصح لأحد فكلمه مباشرة أو أرسل إليه رسالة خاصة، فكم من تعليقات سخيفة غير مدروسة العواقب وكانت ظالمة؛ أرْدَت صاحبها المهالك وأسقطت هيبته وعرضته للأخطار وأبعدته عن جادة المسالك.
ورب تعليق قد يصيب صاحبه بفضيحة أو إنقاص من قيمته، أو قد يؤدي إلى جرح مشاعر الغير وأذيته، وربما يكشف ويبين مدى ضعفك وانحطاطك وخلقك المتدني، وفي الأول والأخير أنت مسؤول عما تكتب أو تنطق من الكلم، سواء أمام الله، ثم أمام التاريخ والقانون؛ فلا تكتب أو تنطق إلا خيراً، إن أردت النجاة، أو عدم الندم في الحياة.
الكلمة مفتاح للقلوب والعقول، فليكن سلوكك هادفاً لنشر الخير، واجعل قلمك ولسانك يضخان بالكلم الطيب النافع؛ لتجبر القلوب المكسورة، والنفوس الحزينة، والأحاسيس المكلومة.
فلتكن طيب الفؤاد صادقاً في القول ومخلصاً في الفعال، ومتجنباً الكذب؛ فإنه بوابة الذنوب، وإياك والحيلة والخديعة؛ فستكتشف من العقلاء والأتقياء، وتنزل مكانتك إلى درجة الأشقياء، ازرع الأمل في أهلك ومن حولك وفي أمتك، بالكلم الإيجابي الجميل؛ فستظفر ببصمة في الوجود، ويحبك الحي القيوم.