قال أحدهم: إن المسلم ليس حرًا في فكره؛ لأنه يؤمن بوجود إله، ومكبل بالحلال والحرام، ومن ثَم لا يستطيع أن يبدع في مجالات الحياة ليكون له إسهاماته في الحضارة الإنسانية!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
من الواضح أن حرية الفكر عند هؤلاء تعني الإلحاد! وما دام الإسلام يقف عقبة ضد الإلحاد، فهو إذن لا يبيح حرية الفكر!
هذا هو المنطق المعوج الذي يتحدثون به، ونحن بدورنا نسأل هؤلاء: ما ضرورة الإلحاد في ظلّ الإسلام؟!
لقد كان الإلحاد ضرورة في أوروبا لأسباب يعرفها القاصي والداني، وليس بالضروري أن تتكرر في كل مكان، فالصورة التي أعطتها الكنيسة في أوروبا للعقيدة النصرانية من جهة، وخنق الكنيسة لحركة العلم، وحرق العلماء وتعذيبهم، وفرض الخرافات والأكاذيب على الناس باسم الرب من جهة أخرى.. كل ذلك قد فرض الإلحاد فرضاً على أحرار الفكر من الأوروبيين، ومزق سرائرهم بين الاتجاه البشري الطبيعي للإيمان بالله تعالى، والإيمان بالحقائق العلمية(1).
وكان لسان حال الأوروبيين يقول للكنيسة: خذي إلهك الذي تستعبديننا باسمه، وتفرضين علينا الإتاوات المرهقة والدكتاتورية الطاغية، والأوهام والخرافات، والذي يقتضينا الإيمان به أن نتنسك ونتعبد ونترهبن، وسوف نؤمن بإله جديد، له معظم خصائص الإله الأول، ولكنه إله ليس له كنيسة تستعبد الناس، وليس له عليهم التزامات خُلقية أو فكرية أو مادية، فهم في رحابه طلقاء من كل القيود.
أما المسلمون في ظل الإسلام فما حاجتهم إلى الإلحاد؟!
ليس في العقيدة الإسلامية إشكال يحير الذهن، فإله المسلمين واحد هو الذي خلق الكائنات كلها وحده، وإليه مرجعها وحده لا شريك له ولا معقب لكلماته، عقيدة بسيطة واضحة لا يختلف عليها أحد.
وليس في الإسلام «رجال دين» كالذين كانوا في أوروبا؛ فالدين ملك للجميع ينهلون منه، كلٌ على قدر ما تطيقه طبيعته ومؤهلاته الفكرية والروحية، والجميع مسلمون؛ (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 132)، وأكرم الناس عند الله أتقاهم، مهما كانت وظيفته ومهنته، والعبادات كلها تتم بغير وساطة رجال الدين.
أما الجانب الفقهي والتشريعي في الإسلام، فطبيعي أن يتخصص فيه أناس باعتباره الدستور الذي يقوم عليه حياة الناس، ولكن موقفهم موقف كل المتخصصين في الفقه الدستوري والتشريعي في كل بلد من البلاد، لا يملكون بصفتهم هذه سلطة على الناس ولا امتيازاً “طبقياً» عليهم، وإنما هم مستشارو الدولة وفقهاؤها فحسب.
وليس في العقيدة الإسلامية ولا النظام الإسلامي ما يقف في طريق العلم بنظرياته وتطبيقاته، ووقائع التاريخ هي الحكم في هذا الشأن، فلم نسمع بأن عالماً حُرِّق أو عُذِّب لأنه اكتشف حقيقة علمية كما حدث في عصور الظلام الأوروبية، والعلم الصحيح لا يتعارض مع عقيدة المسلم في أن الله تعالى هو الذي خلق كل شيء، ولا يتعارض مع دعوة الإسلام للناس أن ينظروا في السماوات والأرض وأن يتفكروا في خلقها ليهتدوا إلى الله سبحانه، وقد اهتدى إلى الله كثير من علماء الغرب الملحدين أنفسهم عن طريق البحث العلمي الصحيح.
يقول هؤلاء: إنهم يريدون أن يكونوا أحراراً في أن يكتبوا ضد العقائد والعبادات، وأن يسخفوها للناس ويدعوهم إلى التحلل منها دون أن يقعوا تحت طائلة القانون.
نعم، ولكن لماذا؟ إن هذا في ظل الإسلام ليس هدفاً في ذاته، وإنما كان في أوروبا وسيلة لهدف آخر هو تحرير الفكر من الخرافة، وتحرير الناس من الطغيان، فإذا كان الناس يملكون هذه الحرية في ظل الإيمان، فما الهدف الذي تريدون تحقيقه؟
الحقيقة أن هؤلاء يريدون الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية بغير رادع، تلك هي حقيقة المسألة، وليس الجانب الفكري إلا ستاراً يغطون به عبوديتهم للشهوات، ثم يزعمون أنهم أحرار الفكر، وليس الإسلام مكلفاً أن يطيع عبيد الشهوات وهو يدعو إلى التحرر من كل سلطان بما في ذلك سلطان الشهوات(2).
عندما سئل العلامة القرضاوي، يرحمه الله، عن موقف الإسلام من الحريات الفكرية والدينية قال:
جاء الإسلام فمنح الناس حرية الحقوق، فالحرية منحة منحها الإسلام الناس دون طلب منهم احتراماً لهم، فمنحهم حرية التفكير، وحرية العلم، وحرية الرأي والقول والنقد، وحرية الاعتقاد، والتدين، وحرية التصرف بما لا يؤذي أحدًا، وحرية التملك بالشروط والقيود المشروعة، بدون ضرر ولا ضرار.. فهذه هي القاعدة العامة في الإسلام: «لا ضرر ولا ضرار»، فأي حرية يترتب عليها ضرر لنفسك، أو ضرر لغيرك، يجب أن تُمنع، ويجب أن تُقيد في هذه الحالة، فإن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك.
أما حرية الفسوق، التي ينادي أصحابها بأن يكونوا أحراراً في إفساد أديانهم وأبدانهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم.. فهذا انحلال وتسيب لا تستقيم معه حياة، فلذلك صادره الإسلام(3).
جاء الإسلام فأقر الحرية في زمن كان الناس فيه مستعبدين؛ فكريًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، ودينيًا، واقتصاديًا، جاء فأقر الحرية؛ حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، وحرية القول، والنقد، أهم الحريات التي يبحث عنها البشر.. جاء الإسلام وهو دين فأقر الحرية الدينية؛ حرية الاعتقاد، فلم يبح أبدًا أن يكره الناس على اعتناقه، أو اعتناق سواه من الأديان، وأعلن في ذلك قول الله عز وجل: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، هذا في العهد المكي، وفي العهد المدني نزل قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256).
ودعا الإسلام الناس إلى النظر في الكون، وإلى التفكير؛ (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)، (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس: 101)، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
هذه هي حرية الفكر التي دعا إليها الإسلام فهل يعقل هذا مثيرو هذه الشبهة؟
________________________________________________
(1) شبهات حول الإسلام، د. محمد قطب، 1/ 137، بتصرف.
(2) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، شبهات حول الإسلام، علي نايف الشحود، 1/ 229.
(3) موقع العلامة القرضاوي، بتصرف.