هذا هو المقال الثالث من سلسلة «الأسس النفسية للتأثير الدعوي»، وقد تحدثنا في المقالين السابقين عن مرونة النفس الإنسانية، والارتباط بين العاطفة والسلوك، أما الأساس الثالث فهو بعنوان «الارتبـاط بين الاقتنـاع والسلـوك».
ونقصد به دور الاطمئنان إلى الرأي وقبوله في التحرك العملي نحو متطلباته، بحيث يُنتِج الاقتناعُ العقليُّ سلوكاً عملياً.
التأصيل الشرعي
أكَّد القرآن الكريم الارتباط بين الاقتناع والسلوك، وذلك في قوله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) (المائدة: 58)، ففي الآية بيان لسبب الفعل والنتيجة المترتبة على هذا السبب، فالسبب هو تعطيل العقل، والنتيجة هي استهزاء البعض بالإسلام وشعائره، فلو استخدموا عقولهم ما استهزؤوا بشريعة ربهم.
وفي مقابل ذلك، تؤكد السُّنة النبوية أن الاقتناع بفكرة إيجابية يسهم في تحقيق سلوك إيجابي، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَسَعوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ»(1)، ففي هذا الموقف تأكيد على أن اقتناع سيدنا أبي بكر بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم دفعه إلى التحرك العملي وإعلان التصديق به أمام الناس، فالاقتناع والسلوك مرتبطان لا ينفك أحدهما عن الآخر.
التوظيف النفسي
أكّدت الدراسات العلمية أن «سلوك الإنسان يتأثر تأثراً كبيراً بأفكاره واتجاهاته»(2)، والمتدبر في سلوكيات الإنسان يجد أنها تأتي ثمرة للعمل العقلي، حيث إن السلوك يترجم ما يدور في العقل، فلا يصدر عمل عقلي إلا ويصحبه أثر أو عمل جسماني؛ «فالسلوك هو الذي يدل على اقتناع الإنسان بالفكرة»(3)؛ بمعنى أن العقل إذا اقتنع بفكرة إيجابية مثلاً؛ فإن الجوارح تتفاعل معها بالقبول، وتنشط لفعل ما يلزم لها، وإذا اقتنع بفكرة سلبية؛ فإن الجوارح تتفاعل معها بالرفض، وتكسل أو تمتنع عن فعل ما يلزم لها، أو تنشط في ضدها، فإذا اقتنع الإنسان بفكرة؛ فإنه ينتج سلوكًا في المسار المناسب لها.
ويسهم هذا الارتباط النفسي بين الاقتناع والسلوك في تشكيل السلوك الواعي والمنظم، حيث إن الكفاءة العملية ترتكز على القناعة العقلية، ولهذا كان من القواعد النفسية في توجيه السلوك الإنساني وضْعُ الأهداف وإقناع الآخرين بها، حيث إن «الاقتناع بالأهداف المطلوبة يبعث على الحماس، ويجدد الطاقة، ويدفع للمزيد من البذل والعطاء»(4).
التوظيف الدعوي
إذا أدرك الداعية أن السلوك الإنساني مرتبط بالتفكير العقلي؛ فإنه ينطلق من هذه الركيزة نحو إيقاظ العقل ودعوته إلى التفكير السليم، حتى يثمر هذا التفكير الإيجابي سلوكاً مستقيماً، وكذلك فإنه يبادر إلى تنفير العقل من التفكير السيئ، حتى يحذِّر من وقوع السلوك السيئ؛ «ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر والمعرفة والتفكر أساساً من أسس الدعوة الإسلامية، وكان التفتح العقلي البصير مفتاحاً للدعوة في الإسلام»(5)، فما أجمل أن يخاطب الداعيةُ العقلَ، ويحشد له الأدلة، ليصوغ أفكاره بالإقناع والاقتناع، من أجل توجيه سلوكه نحو الخير والإبداع!
وما أجمل أن يجمع الداعية في خطابه بين الإقناع والاستمالة، بحيث يقتنع العقل، ويميل القلب، فتنشط الجوارح للعمل!
الدليل على التأثير الناجح
لقد أثبت القرآن الكريم أن السلوك العملي مرتبط بالاقتناع العقلي، ومن ذلك ما كان من سيدنا إبراهيم عليه السلام حين كسّر الأصنام، وسألوه عن الفاعل؟ (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ) (الأنبياء)؛ والمعنى أنهم رجعوا إلى عقولهم(6)، فهم لم يفكروا في هذا الأمر قبل ذلك، فلما دعاهم سيدنا إبراهيم إلى التفكير، علموا أنهم ضلوا وظلموا أنفسهم بسبب الشرك بالله تعالى، وأقروا بذلك على أنفسهم، ولهذا فاجأهم سيدنا إبراهيم عليه السلام ببيان سبب ما هم فيه من ضلال.
إنه تعطيل العقل عن التفكير، فقال لهم: (أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 67)؛ أي: أليس لكم عقل تعرفون هذا(7)؟ فلو استخدموا عقولهم في التفكير الرشيد ما وقعوا في عبادة الأصنام، وكذلك حذّر سيدنا لوطٌ قومه من السلوك الخاطئ مع ضيوفه، قائلاً: (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ) (هود: 78)؛ رجلٌ عاقلٌ يمنع هذا السلوك السيئ.
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالج السلوك السيئ لدى الشاب الذي جاء يستأذن في الزنى، دعاه إلى التفكير العقلي، قائلاً له: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟»، قال: لا، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم..»(8)، فقد استخدم معه أسلوب القياس من أجل الإقناع الفكري، وما زال به حتى أقنعه وأبعده عن هذا السلوك، فقد ثبت أن الشاب لم يكن بَعْدُ يلتفت إلى شيء من ذلك.
فالاقتناع العقلي بفكرة ما، هو الذي يحمل على السلوك تجاهها، ويدل على هذا أيضًا، ما كان من أمر عنترة بن شدّاد العبسي، الذي كانت أمه سوداء حبشية، وكان أبوه قد أخذها من السبي في إحدى غزواته، ورغم أن عنترة كان فارساً مغواراً، فإن قبيلته كانت تستبعده من الحروب، لكونه من أبناء الإماء، حتى سيطرت عليه هذه الفكرة (أنه عبد فاقد الحرية)، ولهذا تخلى عن تكاليف الأحرار، فكان لا يعبأُ بالمعارك ولا يخرج فيها، بل انشغل بالرعي وربط الأغنام وحلبها، وعندما أغارت قبيلة طيء على قبيلته عبس، قال له أبوه: كُرّ يا عنترة، فردّ عليه: إنما أنا عبدٌ لا يحسن الكَرّ، وإنما يحسن الحلب والصرّ، فقال له أبوه: كُرّ وأنت حُرّ، فقال: الآن(9).
والخلاصة أن الاقتناع العقلي سبيل إلى السلوك العملي، وهذا أساس نفسي يقوم الداعية من خلاله بصياغة الأفكار التي تحمل المدعوين على السير في إطارها بعد الرضا بها والاطمئنان لها.
_________________________________________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، (3/ 65 رقم 4407)، وقال: حديث صحيح الإسناد، وقال الذهبي: صحيح.
(2) القرآن وعلم النفس، د. محمد عثمان نجاتي، ص 280.
(3) الإقناع، أحمد محمد عطيات، ص 206.
(4) السلوك التنظيمي: د. محمد يوسف القاضي، ص 257.
(5) علم الاجتماع الإسلامي: د. زيدان عبدالباقي، ص 9.
(6) روح المعاني، للألوسي، (9/ 64).
(7) معالم التنزيل: للبغوي، (5/ 326).
(8) أخرجه أحمد، بإسناد صحيح، (36/ 545 رقم 22211).
(9) الأغاني، للأصفهاني، (5/ 246).