آثار تعدد المدارس
قال د. يوسف القرضاوي: أعتقد أن السؤال قد استوفى حقه بإجابات إخواني، ولكني أشير هنا إلى شيء مهم يتعلق بمن نسميهم “شباب الصحوة الإسلامية”، وأنا أحب أن نأخذ هذا للعنوان العام بدلاً من “شباب الحركة الإسلامية”، فالصحوة أوسع مدى من الحركة التي تحمل طابعاً وإطاراً محدداً، وهنا نلاحظ تعدد المدارس والموجهين، ومن هنا لا نجد الطابع الذي تميزت به مدرسة مثل مدرسة الإمام حسن البنا، وهذه المدرسة تتميز بفهم خاص للإسلام، وبسلوك خاص في الالتزام به والدعوة إليه، تتميز هذه المدرسة بالشمولية في فهم الإسلام، وهي المدرسة التي نادت منذ بدأت أن الإسلام: دين ودولة، وعقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، وصلاة وجهاد، ومصحف وسيف.. ولم تأت بهذا من عندها، ولكنه الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما طبقه وطبقه أصحابه من بعده، كما وعرفته القرون الأولى خير القرون.. إسلام شامل، ليس فيه دين في جانب وسياسة في جانب آخر، ولم يعرف المسلمون هذه التفرقة، بل كان إمام المسلمين إماماً في الصلاة، وقائداً في الحرب، وقاضياً بين الناس، فلم يعرفوا هذا “الفصام النكد”، تميزت هذه المدرسة بشمولية الفهم للإسلام؛ (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)، كما تميزت مدرسة الإمام البنا بالنظرة “الوسطية” منهج الاعتدال والتوازن فهو يهتم بالجوانب المختلفة، فلا يعطي ناحية أكثر من حقها وأكبر من حجمها.. فجانب الفكر له حقه، وجانب العمل له حقه، وجانب الجهاد له حقه.. الجسم له حقه.. الروح لها حقها.. وأشار إلى ذلك في أهداف الإخوان السياسية: “تعمل الجماعة على تكوين الإنسان المسلم؛ روحياً بالعبادة، وعقلياً بالثقافة، وخلقياً بالفضيلة، وبدنياً بالرياضة.. إلخ”.
معنى الإلزام
وقال د. القرضاوي: إن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ملزم لكل مسلم من غير شك، حيث إننا مأمورون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31)، والله جعله لنا الأسوة؛ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، ولكن معنى الإلزام هنا هو فعلاً في خطوطه العامة والعريضة، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ في بناء الفرد قبل إقامة الدولة، فنحن إذن ملزمون أن نعمل على بناء الأفراد المسلمين الذين تقوم على أكتافهم الدولة، والذين يصبحون هم رعاتها وحراسها ويؤتمنون عليها، فهذا ملمح أساسي في هذا المنهج النبوي المحمدي.. منهج التربية والبناء قبل إقامة الدولة نلحظ هنا أيضاً: الصبر على الباطل حتى تستطيع أن تزيله، وليست العجلة بمقاومته في عملية انتحارية.. الرسول صلى الله عليه وسلم مكث يصلي عند الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، لم يفكر الرسول أن يحمل المعول، أو يأمر أصحابه بأن يحملوا الفؤوس والمعاول ويذهبوا لتحطيم هبل والأصنام التي حوله، فلو فعل هذا لعرض نفسه وأصحابه معه لمعركة فناء مع القوى المشركة المتجبرة والعاتية التي تملك أضعاف أضعاف ما يملكه هو.. فلم يستعجل معركة قبل أوانها.
ونحن نأخذ من هذا أن منهجه عليه الصلاة والسلام أن يسكت على المنكر ويصبر على الباطل حتى يتمكن من إزالته، وهذا ملمح من الملامح العامة.. ملمح آخر: أنه كان عليه أن يوسع نطاق دعوته ويعرضها في كل موقع وحيثما استطاع بكل وسيلة، وقد استغل مواسم الحج في كل عام والتجمعات والأسواق التي كان يصنعها العرب ولم يدخر وسعاً في هذا.
الحذر من التفصيلات
وقال القرضاوي: كنت أريد أن أقول: حينما نشبه ما نحن فيه فنقول مثلاً: نحن أشبه ما نكون في العهد المكي، أو العالم أشبه بما كانت عليه الحال في عهد الرسول صل الله عليه وسلم، ولكن أحياناً يفهم ذلك خطأ؛ لأن المشبه لا يقتضي أن يكون مثل المشبه به في جميع الوجوه، وإنما يكون هذا التشبيه في أمر واحد أو أكثر، ولذلك بعض الناس يقولون: نحن في العهد المكي الآن ونحن في مجتمع جاهلي كافر في كل شيء، وهذا يترتب عليه أمور خطيرة وكثيرة، ويترتب على ذلك أحكام لم يقل بها الإسلام.
لذلك يجب أن نحذر من ذلك، والأصح أن نقول: كأننا في العهد المكي، فنحن نأخذ –كما قلنا– الخط العريض في إقامة الدولة وبنائها، ولكن ليس معنى هذا أنه كما هاجر الرسول صل الله عليه وسلم من بلده إلى بلد آخر، علينا أن نصنع كما صنع، فنهاجر من بلادنا إلى بلاد أخرى.. لا، فبلادنا بلاد إسلامية وتحتاج لأن نقيم الإسلام فيها؛ ولذلك يجب الحذر من هذه التفصيلات والجزئيات والتشبيهات التي قد تجرنا إلى متاهات، وهذا يحتاج إلى فقه عميق ودقيق في هذه القضايا.
______________________________________________________________
العدد (819)، 29 رمضان 1407هـ/ 26 مايو 1987م، ص20-25.