البيع والربا جمعتهما آية واحدة في كتاب الله تعالى، ولكن شتان بينهما، فالبيع أحله الله، والربا حرمه؛ (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، وقد احتج المشركون في تسويغ الربا بأن الكسب فيه كالكسب في البيع، فكما أن الرجل يبيع ويشتري فيكتسب من فروق الثمن في البيع والشراء، فكذلك يدفع لغيره المال، فيبيع ويشتري فيكتسب أو يشاركه في الكسب، وإن لم يتعرض للخسارة، ومن جهة ثانية؛ فإن الربا كالبيع من حيث إنه يبيع مؤجلاً بثمن وحالاً بثمن، فكذلك يجوز له أن يقبض الدَّين بعد الأجل أكثر مما أدى.
وقياس المرابين من أهل الشرك والنفاق البيع الحلال على الربا الحرام هو انتكاس للفطرة الإنسانية، فالمنطق يقتضي أن يقولوا: إنما الربا مثل البيع، مع أنه شتان ما بين الربا والبيع، وواضح أن البيع المراد هنا هو البيع بثمن مؤجل، ولكنه التخبط الذي لم يسلم منه لسانهم، زاعمين أنه إن كان الربا محرماً فليكن البيع محرماً، وإن كان البيع حلالاً فإن الربا حلال، فإذا منعتم ربح القرض فامنعوا كذلك كل ربح من البيع فهما سواء، وهم بذلك يريدون قياساً إما بالطرد أو بالعكس، فكان القول الفاصل الحاسم من الله تعالى بإباحة البيع الحاضر والمؤجل، فعمم سبحانه في الحل، وخصص وعيّن في التحريم، فأصبح الذي أحلَّه أكثر مما حرمه.
إن البيع يحصل في حالة وجود الأجل وعدمه، بينما الربا الأجل هو سر وجوده، فمنفعة الربا لا قوام لها إلا بالأجل، ولا علاقة لها بتحقيق قيمة مضافة تعكس تكلفة الأجل كما في البيع، وللأسف نجد هذا المنطق المقلوب ممن يرددون في عصرنا الحاضر بأنه لا فرق بين بيع المرابحة للآمر بالشراء في البنوك الإسلامية والقرض بفائدة في البنوك التقليدية، ويتخذ بعضهم من ارتفاع عائد المرابحة في بعض البنوك الإسلامية عن سعر الفائدة في البنوك التقليدية مبرراً لذلك.
إن الزيادة في الربا زيادة فعلية بدون عوض، والزيادة في البيع لا يمكن القول بها، فالبيع معاوضة بين شيئين يتم فيها دفع عوض أو ثمن وأخذ معوض أو مثمن حيث يختلف العينان، فالزيادة هنا غير معتبرة ولا يمكن القول بها بين العوضين لاختلافهما، بينما العوض في الربا من نفس الجنس مع زيادة في الدين لا يقابلها شيء لأجل التأخير في الأجل، فلا معاوضة حقيقية فيها ولا مقابل لها فهي ظلم وباطل.
وفي هذا يقول ابن العربي المالكي: «الربا في اللغة هو الزيادة، ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به، فحرم الله تعالى الربا، وهو الزيادة؛ ولكن لما كانت الزيادة لا تظهر إلا على مزيد عليه، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضاً إلا بإظهار الشرع».
ويضرب القفال مثلاً عملياً لبيان الفرق بين البيع والربا فيقول: «من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يقال: إنّ الزائد عوض الإمهال؛ لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة».
ويضيف الفخر الرازي: «إن الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض؛ لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه»، فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد، تلك التجارة ربح، فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله؟ قلنا: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر».
كما زاد البيضاوي هذا الأمر تحريراً بقوله: «الفرق بيّن، فإن من أعطى درهمين بدرهم ضيع درهماً، ومن اشترى سلعة تساوي درهماً بدرهمين فلعل مساس الحاجة إليها أو توقع رواجها يجبر هذا الغبن».
وبذلك كان السبق لعلماء المسلمين منذ قرون في الرد بمنهجية علمية على نظريات تبرير الفائدة التي أثيرت في واقعنا المعاصر تحت مسمى حق رأس المال في المكافأة أو العائد تعويضاً عن المخاطر، أو ثمن لاستعمال المال، أو للتنازل عن النقود أو السيولة، أو أجر للزمن، أو أجر للادخار، أو ريع للنقود كريع الأرض، فالإمهال ليس مالاً أو شيئاً يصلح عوضاً، وربح المقترض من القرض أمر موهوم، في حين الفائدة على القرض أمر متيقن للمقرض، وهذا بخلاف البيع الذي فيه جهد وعمل ومنفعة متوازنة لطرفيه، فلا ربح بدون تحمل للمخاطر، وليست المخاطر سلعاً أو خدمات بذل الإنسان فيها جهداً ووقتاً ومالاً لتهيئتها وبيعها بربح أو تأجيرها مقابل أجر.
وبذلك تبدو عظمة النظام الاقتصادي الإسلامي، فهو لا يعطي فائدة لرأس المال كما في النظام الرأسمالي، ولا يمنع رأس المال من الحق في العائد كما في النظام الاشتراكي، فهو نظام متفرد، فلا مانع فيه -من حيث المبدأ- من مكافأة رأس المال ولكن يربط ذلك بالاقتصاد الحقيقي من خلال ربط العائد بالجهد، لذا فمكافأة رأس المال ليست جائزة على إطلاقها، بل مرتبطة بجهد وسعي وعمل وربح وخسارة، فهي تجوز في المشاركات كحصة شائعة ومعلومة من العائد أو الناتج، وتجوز في البيوع الآجلة (من بيع مؤجل الثمن وبيع مؤجل المثمن) مقابل الزمن، وفي الوقت نفسه لا تجوز إذا كانت زيادة مشروطة في القرض مقابل الزمن.