بينا في المقالة السابقة من دراسة «فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية»(1) مبررات هذا الطرح، وأهميته في ترميم مباني المعرفة الدينية التي أخرت مرجعية القرآن وقدمت الآراء والأفكار المستنبطة والمختلف فيها على قول القرآن، كما أوضحنا أن مقصد هذه الدراسة الرئيس يقوم على ضرورة تبني المرجعية القرآنية المعرفية في جميع العلوم الإسلامية، بحيث تمثل المصدر الرئيس لتلك العلوم، والمعيار الذي يوزن به مخرجات هذه المعارف، باعتبار أن تلك المنهجية المعرفية هي القانون الأساس للعلوم الدينية وغير الدينية، ونستكمل هنا طرح جوانب هذه الدراسة.
المرجعية القرآنية والحضارة الإنسانية
إن الاهتمام بالإدراك السامي للقرآن الكريم ولروح الدين نقطة الثقل ومركز الإلهام للعلماء المسلمين، في وضعهم حجر الأساس في بنيان الحضارة الإنسانية، فهم قد تصدوا في مضمار التفاعل المبني على فهمهم العلمي والسنني عن الدين، للسير في الأرض، والتعقل، والتبصر في مناحي الوجود، وسير غور الأشياء، وتأمل الأجرام السماوية، والتفكير العميق في ذرات الوجود، وتبين الأنفس الإنسانية والتحقيق فيها وسير غورها، وحركة استنباط العلم الديني على أساس معرفة الآفاق والأنفس.
إن الالتزام بالقرآن ككل، إضافة إلى الإدراك العقلي والفطري للبشر (الذي يعززه القرآن، ويحث على تفعيله وتأهيله، في أثناء التأسيس لـ«إنتاج العلم الديني» والخروج من الأطر الضيقة والمحصورة لعلم الأصول (أصول الفقه) الحالي المبني على التحرك الانفعالي، مقابل التيار الإخباري (التيار الحديثي) أو غيره، للتوصل إلى أصول فهم الخطاب الديني، وإلى أصول فهم أسس الشريعة، وقوانينها الكلية، في ظل فلسفة الدين الشاملة، ومن ثم لفهم أصح وأصلح النظريات الإنفاق والرحمة والسنن التاريخية الثابتة والعبادة والتوحيد وغيرها، هي طريق التخلص من الإشكالات والأخطار والآفات التي أضعفت كيان الفكر الديني.
إن النص القرآني الكريم هو بمثابة القطب والمركز بين النصوص الدينية، ومنزلته مثل منزلة الكعبة بين البيوت، علينا أن نتوجه إليه بالفكر والعقل والفهم ونتخذ منه قبلة للمعرفة ونعتبره الأساس في شرعنة المعرفة، وميزانًا للتمييز بين الحق والباطل، كما أننا اعتمدنا على التعامل مع بيت الله الحرام رمزًا إلى كل هذه المفاهيم الرامية إلى تكريس التوحيد الشمولي، ومن المفارقة أن نوجه الأجساد نحو الكعبة ونمانع من توجيه الفكر والعقل إلى كعبة النص ومحور المعرفة ومركز الوحي ونصلي بأبداننا تجاه قبلة مكة وبيت الله الحرام، ونمتنع عن الصلاة في المعرفة والعقل والعلم متوجهين إلى الاتجاه نفسه.
تضيف الدراسة حول الأسباب التي أدت إلى تراجع هيمنة المرجعية المعرفية القرآنية على إنتاج المعرفة الدينية بخاصة والمعرفة الاجتماعية بصورة عامة إلى أسباب متعددة ومختلفة، إن أسبابًا متنوعة وظروفًا متشعبة قد أدت إلى اختزال الدور القرآن في العملية الاجتهادية، منها الفهم الخاطئ لعلاقة النصوص الدينية غير القرآنية به، ومنها ما يرجع إلى أعمال الذوق والسليقة والاستحسان غير المستند إلى القوانين القرآنية وغيرها من أسباب لا نرى مبررًا لإحصائها الآن، واللافت في الأمر هو الشرخ الكبير الحاصل في مراحل عملية الاستنباط جراء استبعاد غير مقصود للقرآن الكريم.
كما تُحمل الدراسة النظام التربوي وحركة العمل الإسلامي جانباً من تلك المسؤولية عن تراجع الهيمنة المعرفية للقرآن، أن سير العلم الديني والتربية الإسلامية والثقافة الأسرية ليس على أساس ينتهي إلى القرآن، والعقل المسلم لا يرتكز في التنشيط عقله وتحريك وعيه إلى تفاهم النص القرآني، والأدهى والأمرّ من ذلك هو أن الدعوة الإسلامية قد فشلت في جعل القرآن الكريم وما يحويه من عناصر التكوين الشامل لمشروع الإنسان المهتدي والمجتمع المهتدي والموالي، قد فشلت في المرجعية الأولى في تكوين الثقافة وأصول التربية.
وقد ترتب على ذلك عدم الاعتراف بمرجعية القرآن الكريم في ذلك كله، الوقوع في فخ اعتبار نصوص ظرفية جزءًا أساسيًا في التنظير وبالتالي انتهاء إلى محاولة قولية زمن وعصر يختلف في كل شيء عن سوابقه بقوالب تاريخية، ما يدفعنا باتجاه اعتبار نسبة كبيرة منها كمرجعيات معصومة لأجل فهم وصياغة المنهاج الاستنباطي بصرف النظر عن الظرف التاريخي المصداقي الذي يرتبط المعنى والدلالة الخاصة به.
خطوط العودة إلى القرآن
تحدد الدراسة خطوتين مهمتين على طريق العودة إلى المرجعية القرآنية، أولى هذه الخطوات الانطلاق إلى طريق معرفة النفس وكشف الذات، ومن دون تحقيق هذا المطلب، فإن الضياع والانزلاق والسقوط لا محيص عنه، ولعل أروع ثنائية انطوت عليها عشرات الآيات من كتاب الله الكريم هي مصطلحا الظلمات والنور، ونحن بمنأى عن هول الأدب وكثافة دقائقه ومظاهره الغريبة في هذه المفردات، ندرك أن التعبير فيه شمولية واستيعاب هائل يختزن في داخله كل مظاهر الشر (ظلمات) والخير (النور).
وإن الخطاب القرآني كما هو معلوم متجرد من مقومات الخصوصية، فالتعبير القرآني يتميز باستيعاب وعمومية يتمكن به من اجتياز كل زمن وكل ظرف، ويصلح ليكون أعظم آلية لمعايرة ووزن سلوك الإنسان وحركة التاريخ، وما الذي نعانيه اليوم من مأساة الظلم، ومصيبة التيه وكارثة الاستبداد والدكتاتورية، وأزمة التخلف والتأخر، وانتشار الفساد والإباحية، وتسلط قيود وأغلال الجور على المقدرات والمصائر.. إلا ترجمات واقعية لمفردة «الظلمات»، وهي تحل بالإنسان عند فقدان وضياع «النور»، والنور هو نور الله وإشراقته المتمثلة بنزول آياته وكتبه السماوية، وبالمقابل فإن الظلمات هي التخلي عن هذا النور والإقصاء من الصراط المستقيم، إنه كتابٌ فيه منهج دقيق وشامل لعملية التقويم والتصحيح لحركة الإنسان والمجتمع.
أما الخطوة الثانية فهي العودة إلى القرآن الكريم، والاعتراف به بوصفه أكبر وسيلة لتقويم سير الإنسان على طريق الصيرورة والتحقيق، هذه هي السبيل الوحيد للخروج من التيه والضلال، والوسيلة الفضلى للتحرر من التحير والضياع.
وعدم العمل على تكريس مرجعية القرآن الكريم تحت أي غطاء كان، سيؤدي إلى تغييبه وتحييده عن ساحة الحياة، وينتهي بنا إلى هجره والوقوع في ظلمات الفكر والممارسة، بعضها فوق بعض متراكمة؛ (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30)، وإلغاء فاعلية القرآن على ساحة الحياة وإسقاط مرجعيته لحسم ثنائية السلوك والنظرية، هو مصداق وترجمة لاتخاذه مهجورًا، والتفرغ لقراءته وتلاوته وترديد ألفاظه وترجيعه بالصوت الحسن، وإن كان حسنًا إلا أنه لا يحصن الإنسان والمجتمع من خطر الوقوع في «الظلمات»، ولا يجنب الإنسان ومجتمعه كارثة هجر القرآن الكريم.
ومطلب آخر ذكرته الدراسة، وهو إعادة بناء الثابت والمتغير في التفكير الإسلامي، ويهدف هذا المتطلب إلى إعادة الأصل في منحى التفكير الإسلامي ليشغل القرآن مكانته الرئيسة والمهيمنة على جوانب ذلك التفكير وموجهاته، وتتراجع البدائل والعوض التي حلت محل هذه المرجعية الثابتة والأصيلة، وهذا يتطلب بدوره «إعادة صياغة وتحديد الأدوار بين النص القرآني وغيره من النصوص الدينية، وكذلك إعادة إرساء قواعد ومناهج التعامل مع القرآن والسُّنة، وذلك في ضوء الواقع، وللوصول إلى بديل حضاري يتكامل فيه العقل والنقل والعلم».
ختامًا: أوجه الباحثين إلى ضرورة الاطلاع المعمق لهذه الدراسة المنهجية، بالدرس والتحليل للآراء الواردة فيها؛ لأنها تمثل نقاط تمركز بحثي مهم للتفكير الإسلامي حول استعادة الوعي بالمرجعية المعرفية للقرآن، والمرجعية الحضارية الجامعة للكتاب الحكيم في واقع المسلمين وواقع الإنسانية المعاصرة، سواء كان ذلك عبر إنتاج العلوم الدينية التي تستقي معارفها من خلفية القرآن الكريم، أو من العلوم الاجتماعية (الإسلامية) التي يجب أن تتوجه في نموذجها المعرفي إلى الأخذ من معين القرآن ونبعه الفكري والمعرفي، الذي لا ينضب، ولكنه يحتاج إلى من يسأله ويستهدي بهديه ونوره المبين.
_____________________________________________________
(1) نجف على ميرزائي: فلسفة مرجعية القرآن المعرفية في إنتاج المعرفة الدينية، ترجمة: دلال عباس، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2008، ص 165.