مع كل إجازة صيفية يعاني الآباء من حيرة مزمنة حول كيفية تنظيم يوم أبنائهم ليصبح مثمرًا وممتعًا في آن واحد، بعد عناء دراسي طويل، ويزداد الأمر صعوبة كلما كان الصغار في مرحلة بناء الشخصية وطور المراهقة؛ ومعظمهم يميل لمؤثرات خارجية من أصدقاء خارجيين ومن الواقع الافتراضي الذي ينغمسون فيه لساعات طوال ويجعلهم في عزلة اختيارية مزعجة.
هنا قد تصبح الإجازة ورطة حقيقية، أو فرصة ذهبية، وهذا يعتمد على قرارك كمربٍّ ناجح، إذا استثمرت تلك الشهور في بناء علاقتك بابنك أولًا، وتوجيهه لما يفيده بدنيًا وسلوكيًا ويوسع مداركه، وينمي علاقاته الصحية بالمجتمع، ويقضي معه أوقاتاً ممتعة حقًا.
ابني والإجازة
من المهم التفكير أولًا في علاقتك بابنك، وكيف تدعمها في الإجازات، وللبيت دور محوري في تكوين شخصية الابن المسلم، فهو الذي يدفعه لاختيار الأنشطة والصداقات، وتقييم جودتها، ويخبرنا كتاب «التربية في الإسلام ومخاطبة المراهقة» للدكتور محمد عبدالباري، عن دورنا كآباء وأمهات في الاستماع وتفهم الدوافع، والحزم مع الرفق، ومصاحبة أولادنا تمامًا كمرشد لقائد سيارة متدرب وليس إلغاء شخصيتهم.
وتشير جين نيلسون، في كتابها الأشهر عن التربية الإيجابية، إلى ضرورة توفر بيئة إدراك كاملة، وتشجع الأبناء، وتدعوهم للفضفضة، وتتوقف عن العقوبات الفورية أو السخرية منهم، وتحفيزهم بأهداف تربوية عملية، وتفيد الابن ولا تستخدم سلطتك الأبوية فحسب، بل تنفذ قواعد متفقاً عليها، وكلها آليات مغلفة برسالة الحب المطلق لابنك.. هكذا يمكننا أن نهرب من جحيم الشجار بلا طائل مع الأبناء، وهي ظواهر تزداد وضوحًا في الإجازات حيث يميل معظمهم إلى الاسترخاء والرغبة في الهروب من أي التزامات!
وهناك فرص لاستغلال حتى خلافات الإخوة في الإجازات في قيادتهم لحلها بأنفسهم، بدلاً من ممارسة دور «الحكم» كما تخبرنا د. لورا ماركام، في كتاب «الأبوة المسالمة والأخوة السعداء»، كلما ازداد إصرارك لتوفير مناخ هادئ متفهم للأبناء وأحسنت شغل أوقاتهم بأنشطة رائعة؛ ستنشأ ألفة وتذوب الخلافات الطبيعية المبنية على اختلاف الميول والأعمار والملل أيضًا!
كيف نستثمر الإجازات؟
هناك اتجاهات منتشرة بين الآباء لاستغلال إجازات أبنائهم، وأهمها حفظ القرآن الكريم وتدارس الدين وفروعه، بما يلائم أعمارهم، في أقرب مسجد للحي، مع متابعة تأديتهم للصلوات والذكر، بشكل لا يغفل التحفيز.
عليك أن تستقطع وقتاً مميزاً مع ابنك تتلوان سويًا في كتب دينية وقصص أدبية جميلة، وتتحدثان خلاله، وتتيح له فرصة التنفيس عن شعوره وشخصيته وميوله ورغباته.
بالطبع يلجأ أغلبنا للتمارين الرياضية في ناد قريب، فهي وقت مفيد وفائدة للبدن والشخصية، ومن المهم أن تترك العنان لابنك لينتقي نوعية الرياضة المحببة له، كالسباحة وكرة القدم وغيرها، مع أهمية زرع مفاهيم تربوية رياضية مثل روح الفريق واحترام الخصم، والاحتفاء معه بأي إنجاز مهما كان بسيطًا.
لا شك أن غاية مهمة من الإجازات هي الحصول على أوقات سعيدة، يمكننا تنظيم جدول للزيارات العائلية بانتظام، وهو ما ينمي لدى الابن صلة الأرحام ويجعل منه شخصاً اجتماعياً، وهناك فرص التنزه في الأماكن الجميلة الطبيعية؛ ركوب الدراجات والمرح، وتناول المثلجات وكل ما يثير بهجته، القراءة ومشاهدة مواد فيلمية مسلية مثل برامج الطبيعة وبعض الدراما الهادفة.
الأعمال المنزلية أيضاً يمكن التشارك فيها خلال الإجازات، فهي تنمي روح المسؤولية والتعاون؛ على أن تكون مناسبة لعمر الابن، وتعتمد على تعليمه مهارات جديدة، مثل المساهمة في شراء بعض الحاجيات، أو ترتيب الأسرة، أو ريّ الزهور وصنع أطباق بسيطة من الفواكه وأصناف العشاء.. وبمرور الوقت يمكنك أن تشركه في أمور أهم مثل تنظيم ميزانية الأسرة واختيار المصيف الذي تخرجون إليه، وكلها أشياء تخبر الابن بأنه أهلٌ لثقتك؛ ما يعني الكثير له.
الهاتف.. الصديق اللدود!
التجوال الإلكتروني محبب للكثير من الأطفال والكبار أيضًا، لكن من المهم أن نتناقش في أمرين؛ ماذا نشاهد؟ وكيف نشاهد؟ بحيث لا يتحول لإدمان، ومن المهم في حال إصرار الابن على التعرض لمحتوى عنيف أن نقنعه أولًا بخطورة ذلك، وأن تنمي لديه مراقبة الله في سلوكياته وفي الوقت الذي يحق لك أن تتفق معه على تفعيل تطبيقات الحماية الأبوية التي تنذر بأي محتوى خارج إثارة أو رعب أو شذوذ وما شابه؛ لأن الفضاء الإلكتروني قد يبني وقد يهدم بحسب ما تتعرض له!
في المقابل، هناك برامج رائعة لتعلم اللغات وممارستها وتعلم البرمجة والرسم والتصميم والحكي الأدبي، وورش كاملة مجانية ومدفوعة، يمكن للابن الالتحاق بها للاستفادة من وقته وتكوين صداقات جيدة، مع اكتساب مهارات يواكب بها العصر.
على هدي النبوة
كل القواعد التربوية سبق وأن علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، المربي الأعظم، والرجوع إليها تمثل دعامة لأي بيت مسلم، وما أحوجنا في الإجازات لتذكرها، فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نربي بالثناء والمدح، كيف نطرح الأسئلة المقنعة، كيف نتعاطف مع صغير مات عصفوره، كيف نقدّر المعروف، كيف نفعل الأشياء البسيطة مثل الأكل والشرب والملبس، كيف نسيطر على انفعالاتنا بالاستعاذة والابتعاد قليلاً (تقنية 5 دقائق الحديثة) فنهدأ ونتوضأ.. ثم نتصرف.
لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أمور مهمة: علمه وعمره وماله.. كيف أنفقها؟! فكّر في ثمرة سؤالك لابنك عما فعله بيومه؟!
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نعبّر عن محبتنا لأبنائنا قولاً وفعلاً، يقول البراء رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي رضي الله عنه على عاتقه يقول: «اللهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه»!
حان الوقت لتصبح الإجازة فرصة لعودة دفء العلاقة بالأبناء وتوجيههم لما يفيدهم ويسعدهم، هم غرس الحياة وقرة العين وأفضل الكسب، ونتمنى لكم إجازة سعيدة!