إن الحديث بشأن الخلاف والمواجهة فيما بين الإسلام والعلمانية يرجع بالأساس إلى الحقبة الاستعمارية، إذ نهض الشرق من سباته العميق على وقع دوي المدافع الأوروبية قادمة من الغرب بإعلان التحديث الإجباري، في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة، كان العالم الإسلامي على موعد مع تفجر الثنائيات التي سيظل الفكر العربي والإسلامي أسيراً لها لما يقارب القرنين من الزمان، ثنائيات تطرح أسئلة عن بدائل متنافرة في الطريق نحو النهضة واستعادة الأمجاد، وذلك من قبيل: التغريب أم الأصالة؟ الحاكمية أم العلمانية؟ الحداثة أم التراث؟
وقد فرضت تلك الثنائيات قيداً فكرياً مُحكماً على العقل الإسلامي، وعرقلت بفعل موجة التحديث المسلحة من التطور التدريجي والمنطقي للفكر المستجيب لحاجات واقعه العضوية والمنطلق من أسئلته الخاصة لا أسئلة مجتمعات أخرى شديدة الاختلاف وبعيدة الشُّقة عنه.
عن تلك اللحظة التاريخية المهمة وما فرضته من تحديات، يقول الباحث وائل حلاق، في كتابه «الدولة المستحيلة»: إن الاستعمار الأوروبي عمل على تفكيك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة، ليتم تفريغ الشريعة من مضمونها، ليقتصر دورها منذ ذلك الحين على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الحديثة بالمادة الخام، وحتى في هذا النطاق الضيق فقدت الشريعة استقلالها ودورها كفاعل اجتماعي لمصلحة الدولة الحديثة.
من أجل ذلك، فإن الاحتلال الغربي بنقله للقيم الغربية الحداثية من ديمقراطية وليبرالية وعلمانية بقوة المدافع الغاشمة قد عمد إلى تشويش العقل الإسلامي عن فهم احتياجات الواقع وأسئلته الحقيقية، وأعاقه عن تقديم إجابات تنبع من اجتهاده الخاص الذي يراعي خصوصياته ولا يغفل عن الانفتاح الواعي على الآخر، ثم ما لبث أن جُرد ذلك العقل من أدواته الشرعية والإسلامية، وجُرفت موروثاته الثقافية لمصلحة التغريب والتحديث، وبذلك حِيلَ بين هذا الفكر وتقديم اجتهاد خاص يعالج مشكلاته المجتمعية بحلول نابعة من خصوصياته الثقافية والدينية.
سؤال العلمانية.. هل يحتاج إلى طرح؟
من بين أهم التساؤلات التي قد فرضها الاحتلال الغربي على العالم الإسلامي هو سؤال العلمانية، ومدى التنافر والتوافق فيما بين الرؤية العلمانية للعالم والرؤية الإسلامية، وما إذا كان الحكم الإسلامي الحديث قادراً على إدارة الدولة بأسلوب يسوده العدل والمساواة فيما بين مواطنيه، أم أن المساواة تتطلب التخلي كلياً عن الخلفية الحضارة الإسلامية للدولة؟ وعن تلك التساؤلات التي فرضها الغرب، يقول الباحث أنتوني بلاك، في كتابه «الإسلام والغرب»: في الدول الإسلامية كانت الأفكار الجديدة التي تطورت غالباً، رد فعل على الغرب أكثر من الحوار معه.
فقد انشغل الفكر الإسلامي بثقافة «الرد على» أو «الدفاع عن» أكثر مما انشغل بتقديم مشروعه الخاص واجتهاداته الخالصة النابعة من داخله بشأن القضايا المتنوعة، بل وذاعت كتابات المقارنة فيما بين «الشورى والديمقراطية» أو «الاشتراكية والإسلام»، وانبرى المسلمون لتقديم دفوعاتهم بشأن شمول الإسلام لأغلب المفاهيم الغربية عن طريق المقابلة فيما بين تلك المفاهيم والمفاهيم الإسلامية، وهي مقارنات ودفاعات وضعت الإسلام دوماً موضع التابع أو المتهم، وقد عرقلت تلك الانشغالات من اجتهادات حقيقية كان يمكن صرفها إزاء مناقشة قضايا حقيقية وتقديم اجتهادات مبتكرة لصياغة مشروع إسلامي متكامل.
ويعد سؤال العلمانية من أبرز التساؤلات التي فُرضت على العالم الإسلامي بغير وجه حق، إذ لم يكن الدين في السردية التاريخية الإسلامية يشكل أزمة بالقدر الذي فعله الدين المسيحي في السردية التاريخية الأوروبية، وبذلك لم يكن للتساؤل بشأن فصل هذا الدين وعزله عن الحياة العامة من مجال، وهو ما يقتضي مراجعة شاملة لأهم قضايانا الفكرية ومناقشاتنا الثقافية من أجل إعادة تحديد المفاهيم ومضامينها وتهميش القضايا غير الجوهرية لمصلحة انشغال الفكر الإسلامي بالمسائل الأكثر تأثيراً وإلحاحاً في الواقع.
الإسلام والعلمانية.. افتراق دائم
إن الخلفية الرئيسة التي ينطلق منها الإسلام والعلمانية شديدة التنافر والافتراق، فالعلمانية تترك وراءها العديد من المشكلات التي تتعلق بالهوية والقيم الأساسية وكيفية المحافظة على الاحترام الاجتماعي، أما الإسلام فقد جاء لتقديم الوازع الديني والأخلاقي لحمل الناس كافة على الخلق الرفيع والمودة والرحمة والرفق، وبينما تسعى العلمانية لتمييع الهوية وتبديل الانتماء من الدين إلى الدولة القومية الحديثة، فإن الإسلام قدم رابطة أساسية قوامها الدين فيما بين المسلمين عبر أنحاء العالم، وبذلك أصبح المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وعلى صعيد الالتزام والانضباط، فإن النفعية هي ربيبة العلمانية، إذ لا يمكن الالتزام بالقوانين والأخلاق من دون تحقيق منفعة ما من ورائها، بينما الإسلام قد جاء برسالة أخلاقية سامية تستهدف الأخلاق لذاتها والانضباط القائم على المحبة والخوف من الله تعالى، وهو وازع أقوى رسوخاً وأعلى شأناً من فكرة النفعية الغربية الخالصة، إذ خلف ذلك المبدأ النفعي انتشار الجرائم وشيوع العدمية الأخلاقية، ولذلك فإن كفاح المسلمين اليوم بحسب وائل حلاق ينبع من غياب الانسجام بين تطلعاتهم الأخلاقية والثقافية من جهة، والواقع الأخلاقي للعالم الحديث من جهة أخرى، وهو واقع لا بد لهم من العيش فيه، وإن كانوا لم يصنعوه.
فالعلمانية والديمقراطية والتصنيع والتحديث كلها منتجات نشأت في الغرب بحسب تطور تاريخي معين، جعل الغرب يعيش براحة كبيرة في حاضر صنعه هو بنفسه، بينما فُرضت تلك المنتجات الغربية الخالصة على الواقع الإسلامي، وطرحت نفسها بالقوة دونما تدخل من المسلمين، ودون أن يشعروا بحاجة حقيقية لتلك المفاهيم الغربية والغريبة عليهم كُلياً، بل تم إرغامهم على التخلي عن تحقيق نهضة حقيقية مبنية على موروثاتهم الثقافية والتاريخية والهوياتية لمصلحة تحديث غربي لم يطلبوه ولم يكونوا في حاجة إليه.
ماذا يمكن أن نفيد من العلمانية؟
في كتاب «الخيال السياسي للإسلاميين»، تشير د. هبة رؤوف إلى النظرة السلبية نحو الجدل الإسلامي العلماني باعتباره مؤامرة غربية تستهدف تقويض دعائم الإسلام والحركة الإسلامية، بينما يمكن الإفادة من العلمانية في تجديد الاشتباك مع الفكرة بغض النظر عما إذا كان قائلها قد أراد بنا سوءاً، بدلاً من أن نظل قروناً لا ننظر في الفكرة ولا في الحجة، بينما الأصل في الشرع الإسلامي تمحيص الأفكار والنظر في أوجه المقولات.
من هنا، فإن الإفادة الأهم من جدل الثنائيات الذي أحكم سيطرته على العقل الإسلامي إعادة إثارة الأفكار مرة أخرى بعقلية واعية وبصدر رحب من أجل مزيد من الفهم؛ ومن ثم القدرة على المحاججة، بدلاً من ثقافة الرفض المُطلق والهجوم المتشنج؛ إذ يفتح النقاش والجدل آفاق الفكر وتنشيط العقل للإتيان بالاجتهاد اللازم، ومن ثم تفنيد الأفكار غير النافعة وتجاوزها.
ومن ناحية ثانية، تقدم العلمانية تساؤلات مهمة تسهم في تعميق فهم التيار الإسلامي للواقع من حوله؛ إذ يفرض واقع اليوم على الحركة الإسلامية تقديم اجتهادات متنوعة في مسائل مُعلقة دون إجابات، مما يتطلب تقديم اجتهادات عصرية عن المساواة والعدالة والمواطنة والحريات لتبديد الشكوك بشأن الفكر الإسلامي ورؤاه في تلك القضايا، وبما يُعجل من حسم الجدل بشأن العلمانية طالما قدم الإسلاميون بديلاً مناسباً بدلاً من الرفض التام.