منذ قرون، أدرك الاحتلال الغربي لدولنا العربية والإسلامية أهمية الغزو تحت ستار التعليم؛ الأمر الذي فرض علينا مسمى «استعمار»، وهو في الحقيقة «استخراب» وتدمير لمقدرات الشعوب، ونهب لثروات البلاد.
«المجتمع» تفتح الباب أمام إماطة اللثام عن التطبيع العلماني في مناهج التعليم العربية، وكيفية مواجهة هذا الغزو.
في البداية، قال د. سعيد إسماعيل، الأستاذ في كلية التربية بجامعة عين شمس: إن الغرب يحسن قراءة التاريخ والاستفادة منه لمنع تكرار أخطاء الماضي، وفي الوقت نفسه منع أي نهوض حضاري عربي يسيطر على العالم، وهو يذكر جيداً تاريخ الفتح الإسلامي لغالبية جنوب أوروبا، وآثار الأندلس الباقية، والفتوحات العثمانية لوسط أوروبا والوصول لأبواب فيينا، عكس دولنا التي تكررت أخطاؤها فوقعت فريسة لأعدائها، بل وخربت بلادها بأيدي أبنائها دون أن تكلف أعداء الأمة طلقة واحدة.
وأضاف لـ«المجتمع»: إن ما يجري في مجال التعليم خير شاهد؛ حيث يتم إسناد كثير من مؤسساته التي تقود التعليم الأساسي والجامعي إلى علمانيين تعلموا في الغرب وآمنوا بأفكاره، وافتعلوا خصومة بين الإسلام والتقدم العلمي.
التعليم خط الهجوم الأول لضرب مجتمعاتنا من الداخل
الاستخراب الثقافي
من جانبه، أكد د. محمد داود، أستاذ علم اللغة بجامعة قناة السويس، أن الاحتلال الغربي، خاصة الفرنسي، أدرك أن الاحتلال الثقافي أهم من العسكري؛ لأن المحتل العسكري مكروه، أما الغزو الفكري بالأساليب التغريبية العلمانية فيتم تزيينها لتكون مقبولة، بل عليها إقبال كبير، وخاصة إذا تأملنا الحديث الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْراً بشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟»، ويزداد الأمر وضوحاً إذا طبقنا مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده».
وأشار داود إلى أن غالبية صناع الفكر والقرارات لدينا يتكلمون بألسنتنا، ولكنهم يحملون عقلاً وفكراً تغريبياً علمانياً مخترقاً؛ مما يحقق أهداف المحتل الأجنبي بمسخ هويتنا العربية؛ لأن المحتل أدرك أن التعليم خط الهجوم الأول لضرب مجتمعاتنا منذ التحول الذي حدث على يد محمد علي، الذي أسس «الابتعاث» بإرسال طلاب انبهروا بالتعليم الأوروبي ليبدأ التدخل العلماني في التعليم في مصر وبعدها الوطن العربي على حساب التعليم الديني، ليبدأ عصر ازدواج، ثم تعدد انتماءات التعليم، وتراجع الديني، وتزايد التعليم الأجنبي الذي اتخذ أشكالاً متعددة؛ ابتداء من المدارس والجامعات الدولية، مروراً بمدارس اللغات والتجريبية والمستقبل وغيرها.
أما التعليم الحكومي فأصبح في خبر كان، وتم إنشاء معاهد دينية باللغات، وتدريس اللغات في المعاهد الدينية الحكومية في سن مبكرة لتواكب التغيير الذي حدث في التعليم المدني، وإفساح مساحات كبيرة للغات في سن مبكرة جداً قبل المدرسة.
إسناد مؤسسات تعليمية إلى علمانيين آمنوا بأفكار الغرب
تغييب الهوية
ونبه د. داود إلى أن الدول التي تحترم لغتها وتغار على هويتها –مثل اليابان وفرنسا وألمانيا- لا تعلِّم اللغات الأجنبية إلا بعد سن 12 عاماً بعد أن يجيد الطالب لغته، أما في التعليم في عالمنا العربي فحدِّث ولا حرج عن التطبيع العلماني التغريبي الذي نتفاخر به ونقتل بأيدينا لغة وهوية ومستقبل أولادنا، وهذا ما لخصه الخديوي إسماعيل بمقولته: «أريد أن تكون مصر قطعة من أوروبا في كل شيء»، ولخصه الحاكم الإنجليزي لمصر اللورد «كرومر» بمقولته: «إن الشبان الذين يتلقون علومهم في أوروبا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في الوقت نفسه إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين».
وتابع: ولنا أن نتخيل التعليم المصري بعد أن قام «كرومر» بتعيين القس المنصِّر «دنلوب» مستشاراً لوزارة المعارف آنذاك، وطبق المثل الإنجليزي «بطيء لكنه أكيد المفعول»، فأعطى كل الميزات لخريجي التعليم المدني التغريبي، وجاء بمدرسين إنجليز يدرّسون كل المواد بالإنجليزية ويشككون الطلاب في دينهم وحضارتهم، وهمَّش واحتقر التعليم الديني، وتزامن ذلك مع سخرية الفن من عالِم الدين ومُعلم اللغة العربية وإفساح المجال للمتغربين الذين يدعون للعامية.
تواصُل سخرية الفن من عالِم الدين ومُعلم اللغة العربية
كارثة تعليمية
بدوره، أشار د. جمال فؤاد خليفة، الأستاذ بجامعة الأزهر، مؤلف كتاب «العلمانية وخطرها على المجتمعات الإسلامية»، إلى أن عدد الجامعات العربية يقارب 200 جامعة، منها عدد لا يُستهان به من الجامعات ذات التوجه الغربي العلماني من حيث أعضاء هيئة التدريس، وبالتبعية المناهج الدراسية، ولست مبالغاً إذا قلت: إن نصف أعضاء هيئة التدريس على الأقل ممن درسوا في الغرب وحصلوا على درجاتهم العلمية من جامعاته، أو ممن يؤمنون بالعلمانية والتغريب حتى وإن لم يدرسوا في الغرب بالسفر إليه حيث درسوا آراء مفكري الغرب في مختلف العلوم وفتنوا بها وقاموا بتدريسها، وإيهام الطلبة بأهمية استلهام التجربة الغربية ونقلها بكل حذافيرها، ووصل الأمر ببعضهم إلى رفع شعار «العلمانية هي الحل» للتصدي لشعار «الإسلام هو الحل»، ورفضهم أي محاولة لـ«تعريب» العلوم والحرص على بقائها باللغات الأجنبية التي يجيدونها أكثر من إجادتهم للعربية التي ينظرون إليها نظرة دونية، والوقائع الدالة على ذلك أكثر من أن تحصى.
كارثة التطبيع العلماني في التعليم تمتد إلى رياض الأطفال
وأوضح خليفة أن كارثة التطبيع العلماني في التعليم العربي لا تقف عند التعليم الجامعي، بل تمتد إلى ما قبل المدرسة حيث سنوات الدراسة في رياض الأطفال، ولنا أن نتصور أنه حسب الإحصاءات الرسمية، فإن دولة الإمارات العربية تعد الأولى على مستوى العالم من حيث عدد المدارس الدولية قرابة 600 مدرسة، وهذا العدد أكبر من المدارس الدولية بالصين، وعلى المستوى العربي تأتي السعودية ومصر وقطر بعد الإمارات، وهذه الأربع ضمن أكثر 15 دولة بها مدارس دولية عالمياً، وعليها إقبال كبير من أولياء الأمور الذين يدفعون مبالغ طائلة بالعملات الأجنبية، ويتفاخرون بانتساب أولادهم لهذه المدارس التي تدرس كل المواد باللغات الأجنبية، وتناسى هؤلاء أن اللغة هي وعاء الفكر واللبنة الأولى للانتماء والهوية، وهذا التحول السلبي لسيطرة العلمانية والتغريب على مدارسنا وجامعاتنا يظهر أكثر في دول المغرب والخليج.
تهميش متواصل
وأكد خليفة أن تجربة علمنة وتغريب التعليم بدول المغرب العربي لا تختلف كثيراً عن مصر، فكما جرى من تهميش الأزهر تم تهميش جامع الزيتونة بتونس، والقرويين بالمغرب، مع استبدال الاحتلال الفرنسي بالإنجليزي، مع تجاوز التأثير الإيجابي لجامعتي الزيتونة والقرويين حدود بلادهما ليصل للدول المجاورة، فتحالف الاحتلال والتغريب والتنصير والعلمانية لطمس هوية التعليم الديني، كما تم التركيز على «فرنسة» التعليم في دول المغرب وخاصة الجزائر التي كان هناك مخطط لضمها لفرنسا، وما زال كثير من أبناء دول المغرب يتحدثون الفرنسية بطلاقة، في حين يعجزون عن الحديث بالعربية حتى اليوم رغم محاولات استعادة الهوية فيها وخلع رداء «الفرنسة».