ظهرت الحركات الإسلامية استجابة لحاجة واقعية ملحة فرضتها الساحة بإعلان إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية رسمياً في العام 1924م، ليشهد العالم الإسلامي انتهاء الخلافة الإسلامية الأخيرة وقيام دويلات متفرقة قسمتها الحدود الاستعمارية، بينما ظل الدين يوحدها ويجمع شتاتها، فجاءت الحركات الإسلامية لتعلن استمرار حلم الحكم الإسلامي والعمل المنظم لاستعادته مرة أخرى.
لكن واقعاً جديداً كان بانتظار الحركات الإسلامية على اختلافها، إذ فرضت الأحداث المتعاقبة والتحديثات المتلاحقة في سائر أنحاء المجتمع على الحركات الإسلامية التفاعل مع ما تفرضه تلك المسائل والنوازل من أسئلة تتطلب مواقف وإجابات من رواد تلك الحركات تستجيب لحاجات الواقع انطلاقاً من منظورها الإسلامي، وقد كان الفن وسؤاله من أعقد تلك الأسئلة إزاء الحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة.
وبينما شهدت التجربة الإسلامية عبر عصور الخلافات الإسلامية المتنوعة إقبالاً على الفن وإسهاماً إسلامياً متفرداً في ذلك المضمار، كما أشرنا في الحلقة الأولى، فإن الحركات الإسلامية التي حملت على عاتقها إرث إحياء الحكم الإسلامي قد شهدت تجليات جديدة لأنواع وألوان من الفن وقفت بإزائها موقف عام طبعه الحذر والتحفظ والأخذ بالفنون في أضيق الحدود، ثم ما لبث أن تطور إلى الرفض بمرور الوقت، وهو ما نتج عنه تجارب متواضعة وغير منظمة في الإسهام الفني الإسلامي فضلاً عن عدم استمراريتها.
الأناشيد الإسلامية
يُعد فن الإنشاد من أهم المجالات الفنية التي شاركت الحركات الإسلامية فيها بإسهامات متنوعة فيه، إذ لا تخلو حركة إسلامية حديثة أو معاصرة من تجارب ثرية للإنشاد الذي يعالج قضايا مختلفة ويتردد صداه في مناسبات متنوعة.
وقد وجدت الحركات الإسلامية في الإنشاد غايتها لإلهاب مشاعر الشباب وتحفيز طاقاتهم كبديل عن الموسيقى والغناء، وقد أنتجت الحركات الإسلامية أناشيد شهيرة على مدار تاريخها العربي، فالإخوان المسلمون في مصر قدموا أناشيد «لبيك إسلام البطولة»، و«قادم جيش الإسلام»، و«يا معشر الإخوان لا تترددوا».
أما حركة «حماس»، فقد ألهبت أناشيدها انتفاضة الحجارة وأصبحت جزءاً من تراث المقاومة الفلسطينية توثق الأحداث وتلهب المشاعر وترثي الشهداء، ومن تلك الأناشيد: «بدنا نعمل مع حماس 24 ساعة»، «يا شباب الإسلام»، «يوم انطلاقتنا جينا».
وفي المغرب قدمت حركة العدل والإحسان تجربة إنشادية وصلت العالمية من خلال رشيد غلام، الذي تحول من الغناء والموسيقى إلى الإنشاد بعد انضمامه للحركة، لتنضج تجربة إسلامية مميزة تشهد على قدرة الحركات الإسلامية على تحويل وجهة الفن وتهذيبه وتطويره لشكل إسلامي احترافي قادر على المنافسة.
مسرح إسلامي
مثل الفن جزءاً محورياً من مشروع حسن البنا حين عمد لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين بمصر، فقد تجاوز البنا فكرة إقناع الناس بعصرية المشروع الإسلامي وتقديم التنظيرات بشأن تحريم وتحليل الفن، إلى تقديم إسهام حقيقي وواقعي في المجال الفني، فأسس مسرح الإخوان المسلمين في الأربعينيات، وتولى عبدالرحمن البنا -شقيق حسن البنا- الكتابة لذلك المسرح، بل لقد افتتح ذلك المسرح بعرض عاطفي هو «جميل بثينة» كمنافس لمسرحية «مجنون ليلى»، وحازت المسرحية جائزة التمثيل الملكية وجائزة وزارة المعارف، وبثتها الإذاعة المصرية.
وشارك في تلك العروض ممثلات سيدات، في إشارة واضحة على قبول المرأة ومشاركتها في المضمار الفني، ومن ذلك المسرح الإسلامي تخرج عدد كبير من المواهب الفنية التي حققت شهرة واسعة في العمل الفني المصري مثل محمد السبع، وعبدالبديع العربي، ومحمود المليجي، وسراج منير، وإبراهيم الشامي، وعبدالمنعم مدبولي.
لكن تجربة الإخوان الفنية قد توقفت فيما بعد البنا ومسرحه في الأربعينيات، ولم يكتب لها الاستمرار، إذ دخلت الحركة في كفاح سياسي استنزف طاقاتها ولم يُفسح مجالاً لتطوير الإسهام الفني الخاص بها وبلورته.
وقد فطنت حركة «حماس» لأهمية الفن ودوره في معركة التحرير كقوة ناعمة فأدرجت في ميثاق الحركة المادة (19) عنواناً خاصاً بالفن ودوره في معركة التحرير، إذ أسست الحركة دائرة العمل الفني التي تتولى توظيف الفنون في مضمار المعركة التحررية.
وقد نتج عن ذلك تجربة فنية حماسية بدأت بتأسيس فرقة المجمع الإسلامي الفنية ثم شركة أمجاد للإنتاج الفني، وصولاً إلى تأسيس إذاعة «الأقصى» التي تم بث عدد من الفنون عبر أثيرها ومن ضمنها مسرحيات إذاعية درامية، وختاماً بتأسيس قناة «الأقصى» الفضائية التي قدمت «حماس» عبرها عدداً من الأعمال الفنية والأفلام السينمائية مثل فيلم «عماد عقل» الذي قام بكتابة السيناريو الخاص به القيادي في حركة «حماس» د. محمود الزهار، وفيلم «عاشق البندقية» الذي حاز على جوائز دولية.
سمات فنون الحركات الإسلامية
وبالنظر إلى أغلب تلك التجارب الفنية للحركات الإسلامية في العالم العربي، نجد أنها قد اتسمت بعدد من السمات التي ميزتها بشكل كبير عن الفنون الإسلامية التي أسهمت بها الحضارة الإسلامية في عصورها ما قبل الحديثة، وأهم تلك السمات ما يلي:
1- الجدية:
يقول ميثاق «حماس» في ختام فقرة دور الفن في الإسلامي في معركة التحرير: «كل ذلك جِد لا هزل معه، فالأمة المجاهدة لا تعرف الهزل»، وفي تجارب المسرح الإسلامية السالفة الذكر كانت أغلب المسرحيات ذات مضمون فكري وأخلاقي جاد، فبعضها ناقش غزوات إسلامية أو حصار المسلمين في شعاب مكة، بينما ركزت الأناشيد على الجهاد والشهادة ومقاومة الاستبداد ورفع الظلم ورثاء الشهداء، فالفن الإسلامي بشكل عام ونتيجة تعرض تلك الحركات إما إلى الاحتلال الخارجي أو الاستبداد الداخلي والتنكيل وبشكل خاص نتيجة الربط الصارم بين الفن والرسالة الأخلاقية قد طبعها الجدية شديدة الانضباط.
2- التشكك في الفنون:
فبينما كان الفن مباحاً بشكل عام خلال عصور الحضارة الإسلامية مع وضع الضوابط التي تنظم عمله، فإن الأصل لدى الحركات الإسلامية الحديثة والمعاصرة هو تحريم الفن بشكل عام مع قبوله في أضيق الحدود، وهو ما أنتج فناً مُسطحاً ومفرغاً من مضمونه على هامش الفن الحقيقي، ولم تتمكن الحركات الإسلامية من تقديم رسالة حقيقية أو محتوى فني احترافي نتيجة الرفض الشامل للفن واعتباره أداة للهو والمعاصي.
3- غياب الاحترافية:
نتيجة النظرة المتشككة في الفن وجدواه ورسالته في بث المشاعر والقيم والأخلاقيات وتزكية الجمال والحس الفني ومخاطبة العقول والقلوب، غابت الاحترافية الفنية عن الفنون الإسلامية المعاصرة، فلم تتمكن الحركات الإسلامية من خلق كوادر فنية خاصة بها ونابعة من داخلها وناطقة بلسانها من أبناء تلك الحركة، فحتى التجارب القوية لمسرح الإخوان في الأربعينيات، قد حمل لواءها مجموعة من الفنانين غير المنتمين للجماعة أو الذين تركوها فيما بعد تحريراً لفنونهم من القيود الصارمة عليها.
4- غياب التنظيم:
لم تتمكن الحركات الإسلامية من تقديم تجربة فنية قوية نتيجة غياب التنظيم والمأسسة الداخلية للفنون كجزء من تلك الحركات وأذرعها، فلم تُخصص الحركات الإسلامية قسماً من أقسامها التنظيمية للتفرغ للعمل الفني وتوظيف الفنون كجزء من وسائل الدعوة، بل كانت شذرات اجتهادية ومجهودات فردية داخل تلك الحركات من بعض الموهوبين؛ وبالتالي لم يُكتب لتلك التجارب الفردية الاستمرار، ولم يتوفر لها الوقت الكافي الذي يضمن لها النضج والتطور.
5- «أدلجة» الفن:
إن من أهم العوامل التي أسهمت في رفض الفن والتشكك فيه من جانب الحركات الإسلامية، هو ما تعرض له الفن من «أدلجة» على يد الأنظمة الاستبدادية التي استخدمت الفن للنطق بلسانها وتشويه الحركات الإسلامية عبر ذلك الفن، واستخدام سلاح الفن في ساحة المعركة مع الإسلاميين، مما حدا بالإسلاميين برفض الفن باعتباره عدواً لهم ووسيلة لتشويههم والحرب عليهم، وبالتالي حادوا عن استخدامه بديلاً عن تقديم فن مقابل للرد على الفن «المؤدلج» السائد.
ورغم تلك السمات، فإن الحكم على تجربة الحركات الإسلامية والفن لا يمكن أن يصبح نهائياً ولا يجدر وصم تلك التجارب بالفشل أو حصرها في دائرة الرفض والتحريم، وقد أدركت كثير من الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة ما للفن من أهمية كبيرة متزايدة بفعل تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال، ومن ثم بدأت في طريق فني جديد لا تزال تتلمس خطواتها الأولى به، ومن ثم فإن مستقبل تلك التجارب لا يزال قيد التطور في الوقت الراهن.