من مقاصد العبادات الإسلامية أن يتعلم المسلم منها ما يقيم حياته بالطريقة التي يحبها الله ورسوله، وإننا في حاجة إلى الاستفادة من هذه العبادات في حياتنا التي نحياها، ومن الدروس التي نتعلمها من العبادات الكبرى «الانضباط».
والانضباط يعني: أداء ما يجب، في الوقت الذي يجب، في المكان الذي يجب، بالشكل الذي يجب، فالانضباط يكون في الزمان والمكان والأداء.
والناظر في العبادات الإسلامية يجد أن الانضباط درس واضح فيها، سواء كان زمانيًا أم مكانيًا أم أدائيًا.
ففي الصلاة يتجلى الانضباط الزماني في تحديد وقتها، وأدائها فيه، حيث قال عز وجل: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ (النساء: 103)، أما الانضباط المكاني في الصلاة فيظهر في إقامتها في المكان الطاهر، وتجنب الأماكن النجسة، وأما الانضباط الأدائي فإن لها طريقة مفروضة، لا يمكن الزيادة عليها أو الإنقاص منها، بل يجب الانضباط الكامل في أدائها على الوجه الذي شرعت عليه، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»(1)، وعندما رأى المسيء في صلاته لا يؤديها كما ينبغي، قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصلِّ»(2)، وفي هذا تأكيد على ضرورة ضبط الأداء على الوجه المشروع.
وفي الزكاة يتجلى الانضباط الزماني في وقتها حين يحول عليها الحول، أو تُحصد الثمار، حيث قال تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام: 141)، أما الانضباط المكاني في الزكاة فيظهر في إخراجها في أماكن محددة ومصارف معينة، لا يمكن تجاوزها أو التهاون فيها، وأما الانضباط الأدائي فإن لها مقدارًا محددًا، ونظامًا معينًا، وسلوكًا مؤدَّبًا، لا يمكن التخلي عنه، وإلا نقص ثوابها أو بطل أداؤها.
وفي الصيام يتجلى الانضباط الزماني في تحديد شهر رمضان لصيام الفريضة دون غيره، حيث قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185)، وكذلك تحديد وقت الصوم بالنهار دون الليل، فالصيام يبدأ من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهو وقت محدد لا يمكن التلاعب به وإلا ضاع الصيام، وأما الانضباط المكاني في الصيام فيظهر في فرض الصوم على المقيم، وترخيص الفطر لمن كان في سفر لا يطيق معه الصيام، وأما الانضباط الأدائي فإن الصائم يمسك عن شهوتي البطن والفرج، وكذلك يمسك عن سيئ الأخلاق، فلا يتطاول بالأذى اللفظي أو البدني على غيره، بل إنه مأمور بالصبر والتحمل على الوجه الذي يسهم في حصوله على الأجر والثواب.
وفي الحج يتجلى الانضباط في الزمان والمكان والأداء في أسمى الصور والأشكال، وأما الانضباط الزماني في الحج فيتجلى في تحديد وقته وزمانه، حيث قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: 197)، فلا يمكن الحج في غير هذا الوقت من العام، وفي داخل الفريضة نفسها، تأتي أعمالها محددة بأوقات لا يمكن تجاوزها، فالوقوف بعرفة لا بد أن يكون يوم التاسع من ذي الحجة، ولا يمكن رمي الجمرات قبل يوم النحر، وهكذا تؤدى المناسك في أوقاتها بصورة منضبطة، وأما الانضباط المكاني في الحج فيظهر في تحديد أماكن بعينها لأداء المناسك فيها، فالإحرام يكون من الميقات، والطواف يكون حول الكعبة، والسعي يكون بين الصفا والمروة، والوقوف يكون على جبل عرفات دون غيره، وعندما أرادت بعض القبائل في قريش أن يميزوا أنفسهم عن الناس ولا يقفون على عرفات، بل يقفون في المزدلفة، ويسمون أنفسهم «الحُمس»؛ يعني المتميزين، ويقولون: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم، عند ذلك أَمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات؛ ثم يقف بها، ثمّ يفيض منها، حتى تعجب الناس من ذلك، وقال أحدهم: «هذا والله من الحمس، فما شأنه ها هنا»(3)، ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ (البقرة: 199)، وفي هذا تأكيد على الانضباط المكاني وعدم جواز التفريط فيه.
أما الانضباط الأدائي في الحج فيظهر في أداء المناسك على الوجه المشروع دون أي تغيير، فالطواف سبعة أشواط، وكذلك السعي، فلا يمكن الزيادة عليها بسبب الحب والرغبة أو الإنقاص منها بسبب المشقة، فقد حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «خذوا عنِّي مناسِكَكم»(4).
وإذا لبس الحاج إحرامه فقد شرع في أداء فريضة الحج، وهنا لا بد أن يلتزم بالأخلاق الحسنة، ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: 197)؛ أي لا بد أن يتزود من الخيرات، وأن يتخلى عن المنكرات، بل لا بد أن يتغير في العادات، فالحاج لا يجوز له أن يحلق شعرًا، أو يجامع زوجًا، أو يقطع شجرًا، أو يصطاد طيرًا، مع أن هذه الأشياء مباحة له في غير الإحرام، لكن الله عز وجل أراد للمسلم أن ينضبط انضباطًا كاملًا في الزمان والمكان والأداء.
والخلاصة أن العبادات الإسلامية الكبرى تدعو كل مسلم أن ينضبط في عبادته وعمله، زمانًا ومكانًا وأداءً على الوجه الذي ينبغي أن يكون، فإذا فعلنا ذلك فإننا نكون قد حققنا بعض المقاصد التي سعى الشرع الشريف إلى تطبيقها في واقع الناس وحياتهم.
___________________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه أبو داود.
(3) أخرجه البخاري.
(4) صحيح مسلم.