أن تكون متوازناً يعني أن تكون إنساناً واقعياً تدرك الواقع وتتفهمه جيداً لا تتجاهله وتنفيه ولا تضخمه أيضاً، تعمل على الارتقاء به لكن في إطار الممكن لا المستحيل.
من خلال هذا المنظور الواقعي للتوازن يمكننا النظر إلى العالم الافتراضي المتمثل في منصات التواصل الاجتماعي و«السكند لايف»، حيث أصبح هذا العالم الافتراضي جزءاً من هوية الإنسان الحديث في زمن العولمة، وأصبح تجاهل هذا العالم أو السعي لتجاهله وتهميشه أمراً غير مقبول قبل أن يكون غير ممكن، ويبدو عمل هؤلاء الذين يسعون لإعادة عقارب الزمن للوراء ويريدون تشكيل صورة العالم إلى ما قبل ظهور منصات التواصل الاجتماعي كالحارثين في الماء ينتظرون الثمار.
قد يتساءل بعض من لا يرى غير الآثار السلبية لهذا العالم الافتراضي عن سر جاذبية هذا العالم وأسباب نجاحه الساحق، حتى إنهم رغم هجومهم الضاري على منصات التواصل قاموا بالاشتراك فيها وتوظيفها واستثمارها.
سر الجاذبية
الحقيقية أن هناك العديد من الأسباب الظاهرة والخفية التي يمكن أن نعزو لها سر جاذبية هذه المنصات، ومنها:
– إن الإنسان يشعر على هذه المنصات أنه جزء من هذا العالم؛ بمعنى أن العالم على مواقع التواصل لم يعد ذلك البعيد الضخم الذي قد لا يعنينا، وإنما أصبح صغيراً قريباً، وأصبح التفاعل مع حدث ما يجمع أفراداً من ثقافات شتى وطبقات وجنسيات مختلفة، وأصبحت الصداقة بين أفراد تبعد بينهم آلاف الكيلومترات أمراً طبيعياً.
– الإنسان على منصات التواصل الاجتماعي يتحول إلى ما يرغب ويحلم ويتمنى أن يكونه، البعض يعتبر ذلك كذباً وتزييفاً (وهذا حقيقي)، ولكنهم لم يبحثوا عن الدوافع العميقة وراء هذا السلوك الذي يحول واقع هؤلاء النفسي والاجتماعي دون تحقيقه.
– كثير من الشباب لديهم درجة من الرهاب الاجتماعي، ويجدون في التواصل من وراء الشاشات سلوى وبديلاً يمنحهم الأنس والسعادة كبديل لسجن الوحدة الذي يعيشون فيه، والأمر نفسه ينطبق على كثير من الأشخاص الذين تحول ظروفهم دون أن تكون لهم بيئة اجتماعية حقيقية.
– هذه المنصات مصممة بحيث تمنح المتعة للمشتركين فيها، يكفي أن الصفحة الرئيسة تتحول إلى ما يفكر فيه الشخص ويبحث عنه ويهتم به، وتأتيه أفكار وصور وفيديوهات ملهمة في هذا الصدد، وكم كانت منصات «السوشيال ميديا» صوتاً للمهمشين الذين لا يجدون وسيلة أخرى للتعبير سواء عن أفكارهم أو ما يعتريهم من مشاعر.
– هناك متعة خفية في أن يكون الإنسان جزءاً من العالم الرقمي، فيجد متعة في إجراء المحادثات عبر المنصات الاجتماعية، ويميل للبحث عن المنصات الأحدث، فنجد أن كل منصة تستهدف وتجتذب شريحة عمرية مختلفة.
– لا يمكن إغفال دور «السوشيال ميديا» في الإرشاد لدورات متخصصة في شتى مجالات المعرفة، كما أن هناك صفحات كثيرة تنشر الوعي الديني والعلمي والاقتصادي.
الحرية المسؤولة
الركيزة الأساسية التي نحتاجها حتى نصل لمرحلة الاتزان في علاقتنا بتلك العوالم الافتراضية هي ركيزة الحرية المسؤولة، فلا بد أن نكون على يقين أن الله سبحانه وتعالى سيسألنا عن هذا الوقت الذي أنفقناه على هذه المنصات؛ كيف كانت طبيعته؟ وهل ألهانا عن ذكر الله وعن الصلاة، أم أعاننا؟
الحرية المسؤولة هي الركيزة التي ينبغي علينا أن نقدمها لأبنائنا عندما يبدؤون في التواصل مع هذه العوالم، بالتأكيد سنعاني بين الحين والآخر من بعض الاختلال في هذا التوازن نتيجة لتلك الجاذبية الساحرة لهذه المنصات، وهذا أمر طبيعي علينا تقبله كأي خطأ إنساني قد نعايشه، ولكن تبقى ركيزتنا الثابتة التي نعود إليها؛ ألا وهي الشعور بالمسؤولية عن الوقت والسمع والبصر والقلب: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36).
أفكار للتوازن
– الحفاظ على أوقات ثابتة للعالم الواقعي لا تمس ولا تتداخل معها فيه منصات التواصل، كقضاء وقت حميمي وممتع مع العائلة أثناء تناول الطعام مثلاً، مع الاهتمام بالتواصل البصري والإنصات للمتحدث، بحيث لا يكون هناك أدنى انشغال عقلي بالعالم الافتراضي في هذا الوقت.
– غلق الإشعارات؛ لأنها تجعل الإنسان في حالة من الترقب والارتباط بالهاتف؛ فلا يستطيع القيام بممارسة مهام عمله بطريقة سليمة، فوقت العمل للعمل وفقط.
– معظم المنصات لديها خاصية في الإعدادات تنبهك أنك قضيت الوقت المحدد للبقاء داخل المنصة، وهي عامل مساعد حتى لا يتم التهام الوقت.
– من الأهمية بمكان مراقبة الإنسان لنفسه في تعامله مع منصات التواصل الاجتماعي؛ هل يشعر أنه بدأ في إدمانها والتعلق المرضي بها؟ هل تؤثر بالسلب على جودة علاقاته الواقعية؟ هل تؤثر بالسلب على نومه.
– ينبغي التنبه تحديداً لمشاعر القلق؛ هل المحتوى المنشور على منصات التواصل الاجتماعي يجعل الإنسان يعاني من مشاعر الدونية، فهو لم يحقق النجاح والسعادة كغيره من أقرانه ممن ينشرون أخبار نجاحهم وتألقهم، الفتيات على وجه التحديد قد يعانين من الشعور بعدم الرضا عن صورة الجسد لأنهن يقمن بمقارنة أنفسهن بتلك الصور المثالية لنجمات «السوشيال ميديا» لا سيما على المنصات التي تعتمد على مشاركة الصور بشكل أساسي كمنصة «إنستجرام»، وفي حال وجدت مشاعر القلق هذه فينبغي السعي للتعامل معها بصورة مبكرة حتى لا تستفحل.
– المراقبة والمصارحة وتحليل الأمور بموضوعية ستحجم مشاعر الدونية، وتقلل من جلد الإنسان لنفسه بسبب قلة الإنجاز كالأقران.
– السعي وراء المفيد من المهارات والهوايات واستغلال الهوية الرقمية في التعلم والتطوير يجعل التكنولوجيا تعمل لصالحنا، وتعزز المهارات الحقيقية الحياتية، وبهذا يتحقق التوازن المنشود بين حياتنا الواقعية والعالم الافتراضي.