هذا هو المقال الرابع من سلسلة «الأسس النفسية للتأثير الدعوي»، وهو بعنوان «هيبة الداعية وانبهار المدعوين به»، ويقصد به احترام الداعية وإجلاله وتعظيم قدره، وإعجاب المدعوين به؛ مما يساعد في وصول رسالته وقبول دعوته وتحقيق غايته.
التأصيل الشرعي
لقد أكّد الإسلام أن الدعوة إلى الله تعالى من أشرف الأعمال، ومقامها من أعلى المقامات، حيث قال عز وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً) (فصلت: 33)، وقد اختار الله لها صفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من الدعاة الصادقين، فكان عملهم كريماً، وأجرهم كبيراً، ومقامهم عند الله عظيماً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(1)، وفي هذا بيان لقيمة الداعية، وعِظَم قدره، وحثٌّ على رفع شأنه بين الناس.
التوظيف النفسي
تسهم هيبة الداعية في إيصال رسالته وقبول دعوته وتحقيق غايته، فقد أكّدت الدراسات العلمية أن الرسالة الواحدة يكون لها تأثير أكبر على اتجاهات المستمع وسلوكه، إذا كانت آتية من مصدر له هيبته(2)، فإذا لم يكن للداعية هذه الهيبة بين مدعويه فإنه يسقط في أعينهم، ولا يستطيع النفاذ إلى قلوبهم، والتعديل في سلوكهم، فالهيبة تجعل الداعية يسيطر على القلوب ويتحكم في المشهد الدعوي؛ مما يجعل له سلطة قوية بين الناس، فينتظرونه إذا علموا بقدومه، ويتشوقون لرؤيته، ويستمعون لحديثه، ويستجيبون لمطالبه، بيسر وسهولة، حيث إن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها، ثم تسعى لتقليده في كل أحوالها.
التوظيف الدعوي
إذا أدرك الداعية أن الهيبة أساس نفسي للتأثير الدعوي؛ فإنه يسعى إلى اكتسابها والتحلي بها، ثم توظيفها في عمله الدعوي، وذلك من خلال أمور، منها:
أولاً: تعظيم الله تعالى والخوف منه؛ فالهيبة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة اللّه ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وأُلْبِس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب، وحنَّت إليه الأفئدة، وقرت به العيون، وأنِست به القلوب، فكلامه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وعمله نور، وإن سكت علاه الوقار، وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع(3).
ثانياً: حضور الداعية وجمهوره في انتظاره، فلا ينبغي أن يحضر الداعية أولاً، وإنما تأتي الجماهير، وترتب أحوالها، وتجهز أغراضها، وترتب مكانها، وتنتظر الداعية حتى تشتاق إليه، ثم يخرج إليهم، كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة في بيعة العقبة الثانية في أوسط أيام التشريق، بعد أن تسللوا إلى منى في موسم الحج(4)، فكان في حضوره بعدهم إجلال له وتَشَوُّقٌ إليه.
ثالثاً: حسن المظهر، فكلما اهتم الداعية بهيئته؛ نظافة ورعاية وتجميلاً؛ كان أقرب إلى إقبال الجماهير عليه، واستجابتهم له، وكلما كان الداعية جميل الهندام؛ كان موضع إعجاب واحترام، «فالمظهر الجذاب يساعد على تكوين صورة طيبة للمتكلم»(5)، هذه الصورة الطيبة تثير الاهتمام، وتركز الانتباه، وتفتح القلوب لهذا المتكلم، حيث إن هيئة الداعية هي لسان حاله قبل لسان مقاله، وهي مفتاح شخصيته قبل إلقاء بيانه.
والمتأمل في وصف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمين الوحي جبريل عليه السلام في حديث الإسلام والإيمان والإحسان يجد في قوله: «بينما نحن جلوس عند رسول الله، طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد»(6)، تأكيد على اهتمام المدعو بهيئة المتكلم قبل سماع كلامه والاطلاع على بيانه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك(7)، وفي هذا دلالة على أن الداعية ينبغي أن يهتم بهيئته عند مواجهة مدعويه، لما للهيئة من تأثير في نفس المدعو.
فإذا كان الداعية عظيماً، لكنه غير مهتم بمظهره، ربما سقط في أعين الناس قبل أن يتكلم، وخاصة إذا كان هذا الجمهور يراه لأول مرة، فقد أتى إياس بن معاوية المزني حلقة من حِلَق قريش في مسجد دمشق، فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميماً، باذ الهيئة قشيفاً؛ فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه، وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زي مسكين تُكلمنا بكلام الملوك(8)، ففي هذا الموقف دلالة على أن الناس ينظرون إلى مظهر الداعية قبل النظر إلى بيانه، ويحكمون على مكانته من خلال مظهره قبل كلامه.
وليس معنى هذا أن يحرص الداعية على شراء أغلى الثياب، وإنما يحرص على تنظيف وتهذيب وترتيب ما تيسر له منها، حتى يخرج في أجمل زينة وأبهى حُلّة.
رابعاً: إحاطة الداعية بموضوعه وإبراز قوته في التخصص الذي يتحدث فيه؛ لأن هذا يجعل مفعول خطابه أشد تأثيراً في المدعوين؛ «والسر في شدة المفعول هو أن الناس أكثر انقياداً لأقوال المتخصصين من العلماء»(9)، ويدل على هذا ما فعله سيدنا يوسف عليه السلام، حين سأله الفَتَيان في السجن عن تفسير رؤياهما، ما كان منه إلا أن تحدث لهما أولاً عن قدراته التي وهبها الله تعالى له، حتى أسلما له القياد، وأعلنا له الانقياد.
فإذا أراد الداعية تغيير رأي أو تعديل سلوك أو إقناع بأمر من الأمور؛ لزم أن يكون دارساً له، مطلعاً عليه، خبيراً به، مدركاً لجوانبه، بحيث يراه الجمهور متخصصاً فيه، فيسمعون كلامه على أنه الحق الذي لا ريب فيه، ويجتهد الداعية في تحقيق ذلك بأن «يُورِد الأمر في صيغة جلية واضحة قريبة من أفهامهم؛ مصوَّرة لهم بصور تثير خيالهم، وتوضح لهم المبهم، وأن يورد الأدلة التي يراها موجِدة للجزم في نفوسهم؛ وإن لم توجد الجزم في ذاتها، وأن يجتهد في استدراك ما عساه يرد عليه من اعتراض قبل إيراده»(10)، فهذا مما يساعد في تكوين الهيبة المرجوة للداعية.
وهكذا يستطيع الداعية أن يوظف هيبته في الوصول إلى غايته الدعوية، من خلال حسن الصلة بربه، وحسن التوظيف لإمكاناته، وحسن الاتصال بقومه.
الدليل على التأثير الناجح
مما يدل على التأثير الناجح لهيبة الداعية وانبهار المدعوين به ما ثبت من معجزات الأنبياء، فقد أيّد الله تعالى رسله بالآيات البينات، التي تجعل النبي يسمو على قومه بإجراء الله المعجزة على يديه، فتندهش منها النفوس، وتنبهر بها القلوب، وتقتنع بها العقول، حتى يستجيب الناس لرب العالمين، ولا ينحرف بعد وقوعها إلا من سلك سبل الغواية وامتنع عن طريق الهداية.
____________________
(1) صحيح البخاري، (4/ 60 رقم 2783).
(2) علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية: د. ميشيل أرجايل، ترجمة: د. عبدالستار إبراهيم، ص 242.
(3) الروح: الإمام ابن قيم الجوزية، ص 324.
(4) السيرة النبوية: لابن هشام، (1/ 443).
(5) علم النفس ومشكلات الحياة الاجتماعية، ص 242.
(6) صحيح مسلم، (1/ 36 رقم 8).
(7) الجامع الصغير: للسيوطي، (2/ 420 رقم 6770).
(8) البيان والتبيين: الجاحظ، (1/ 98).
(9) التفكير المستقيم والتفكير الأعوج: ثاولس، ترجمة: حسن سعيد الكرمي، ص 124.
(10) الخطابة: الإمام محمد أبو زهرة، ص 40.