ها قد هلّت علينا أيام العيد الأكبر فكل عام وأنتم وأمة الإسلام بخير ونصر وعزة وتمكين.
نواصل الحديث عن فريضة الحج العظيمة وفلسفتها وغاياتها التي لو تبصرها المسلمون وعملوا بمقتضاها لتغيرت أحوالهم وصاروا النموذج الذي يحبه الله ويرضاه.
تذكير لأمة محمد عليه الصلاة والسلام بشيخ الأنبياء ورمز التوحيد
حينما يسعى العبد بين الصفا والمروة ويرمي الجمار يعلن ارتباطه بملة إبراهيم عليه السلام وعائلته وما كانوا عليه من امتثال أمْر الله تعالى، والمبادرة إليه، فيكون التذكر باعثا على مثل ذلك، ومُقررا في النفوس تعظيمهم.
والسعي استشعارُ العبد بأن حاجته وفقره إلى خالقه ورازقه أمر الله تعالى فقال في كتابه ” ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين” وهذا الإعلان شرف وفخر يزين أمة الإسلام التي ارتبطت بأنبياء الله وسارت على دربهم ولم تتنكر لهم أو تعاندهم بل جعل الله شرط الإيمان هو الإيمان بأنبياء الله عز وجل وتعظيمهم،
كما يلفت أنظار المسلمين إلى حقيقة السعي والأخذ بالأسباب وبذل الجهد، إذ أن الكسل والدعة والتواكل ليست من صفات المسلم الحق الذي يبحث عن تأييد الله وعونه.
وفي نفس الوقت عدم التعلق بهذه الأسباب بل بمسببها والتوكل عليه سبحانه والافتقار إليه فهو الذي يرزق من يشاء بغير حساب. كحاجة وفقرِ تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق، والكرب العظيمِ إلى خالقها ورازقها ، وليتذكرالعبد أنّ من كان يطيع الله- كإبراهيمَ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه.
فإذا سعى الحاجُّ فإنه يطلب بهذا السعي من الله- سبحانه وتعالى- أن ينقذه من مخالب العوز والاحتياج، وأن يرحمه برحمته الواسعة كما رحم السيدة هاجر وابنها بماء زمزم. وقد ورد في القرآن الشريف قوله- تعالى-: “إنَّ الصفا والمروةَ من شعائرِ اللهِ فمنْ حجَّ البيتَ أو اعتمَرَ فلا جناحَ عليهِ أنْ يطوَّفَ بهما ومنْ تطوعَ خيرًا فإنَّ اللهَ شاكرٌ عليمٌ” وقال –صلى الله عليه وسلم– “اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي” وهذه حكمة بالغة وحادثة عظيمة.
عرفة وما أدراك ما عرفة!
أعظم مناسك الحج وأهم ركن فيه بل هو أساس الح الوقوف بعرفة، قال النبي صل الله عليه وسلم “الحج عرفة”
يوم العتق والعطاء الفياض، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيها عبدا من النار من يوم عرفة وأنه يباهي بهم الملائكة”
تتشوق إلى هذا الموقف قلوب الحجيج ويجد التنافس في السبق إلى رضوان الله ورحماته، يدفعهم كرم الله الفياض وجوده الواسع، يُنزلون ركائبهم إلى حمى العظيم يرجون عطفه ويلتمسون مغفرته ورحمته، آملين بحسن ظنهم أن تصيبهم نفحة من نفحات الرحمن فلا يشقون بعدها أبداً.
وكأن الحكمة من الوقوف بعرفة-والله أعلم-هو التشبه بحال الواقفين في فسيح القيامة وكل أمة قد جاءت بنبيها، وكل يرجو النجاة، فحين ترى الحجاج في ثيابهم البيض, وفي موقفهم المزدحم العظيم, تشعر أنهم أشبه بالناس في ساحة العرض الأكبر, يوم يخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون .. إنه (تجسيد مصغر) لمشهد الحشر والوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
كما أنه وسيلة عملية للتخلص من الشواغل الدنيوية, وتفريغ القلب لذكرالله, وإيقاظ القلب لمعرفة جديدة بالله عز وجل ومن هنا كانت كلمة “عرفة”؛ فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (معرفة)؛ فهو (يتعرف) على ربه و(يكتشف) قربه, كما (يتعرف) على نفسه و(يكتشف) بعدها عنه تعالى.
في الوقوف بعرفة تأكيد لتحقيق الوحدة بين المسلمين؛ إذ هو تجمعٌ في مكانٍ واحد, وفي وقتٍ واحد, وبملبس واحد: إلى قبلةٍ واحدة وهدفٍ واحد .. يتلقون فيه من الله, ويتجهون إليه, ويسيرون بأمره – فحضورهم بأمره, وأفعالهم بأمره, وانصرافهم بأمره.
عرفة بذلٌ للمهج في الضراعة إلى الله – بقلوب مملوءة بالخشية, وأيد مرفوعة بالدعاء, وألسنة مشغولة بالدعاء, وروح تحسن الظن ببارئها ألا يخيب سعيها.
رمي الجمار واحتقار الشر وإرغامه.
رمي الجمار من واجبات الحج.. وهو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباع أمره ، فقد رمى الجمرات وقال: خذوا عني مناسككم. رواه مسلم
والرمي مقت واحتقار لعوامل الشر ونزعات النفس ونزغات الشيطان .. إنه رمز مادي لصدق العزيمة في طرد الشرور ومطاردتها حتى إزهاقها. وكذلك الترغيم للشيطان والإغاظة له فإنه يغتاظ حينما يرى الناس يرجمون المكان الذي اعترض فيه خليل الله إبراهيم عليه السلام، فهذا المشهد عبادة وشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وليس عملا هزلياً كما يدعي بعض الجهلاء والمستشرقين الذين تكثر عندهم الرمزيات ويجدون فيها منطق كنصب حجر يرمز للجندي المجهول يضعون عنده أكاليل الزهور أما إذا تعلق المر بشعيرة إسلامية فشعارات التخلف والخرافة لا تفارق ألسنتهم الكريهة! .
ومن الحكم أيضاً في رمي الجمار تذكر ما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام لما أمره الله بذبح ولده وسعى لتنفيذ ذلك اعترضه الشيطان ووسوس له بأن لا يذبح ولده فرماه بسبع حصيات، ثم انطلق فاعترضه أخرى فرماه بسبع، ثم انطلق فاعترضه ثالثة فرماه وأضجع ولده على جبينه وأجرى السكين على عنقه فلم تقطع، وناداه الله بقوله:[ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ]. أي امتثلت ما أمرك الله به وعصيت الشيطان.
الذبح والنحر تضحية وفداء
يوم النحر هو يوم الحج الأكبر فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3].
وقد اختلف العلماء في تعيين يوم الحج الأكبر، فذهب جمهور أهل العلم ومنهم الإمام مالك والطبري إلى أنه يوم النحر وذلك لكثرة ما تضمنه من أعمال الحج….، ولأن ليلته أي التي قبله ليلة الوقوف، وفي البخاري وغيره عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم النحر، هذا يوم الحج الأكبر.
ونقل القرطبي عن ابن أبي أوفى: يوم النحر يوم الحج الأكبر يهراق فيه الدم، ويوضع فيه السفر، ويلقى فيه التفث، وتحل فيه الحرم، وهذا مذهب مالك …
والنحر رمز لذبح رغبات النفس وشهواتها وأهوائها المفسدة.
وهو رمز للتضحية والفداء؛ حيث تضحي ببعض مالك رمزاً لإزهاق شهواتك وأهوائك.
وختاماً
فإن للحج حكما عظيمة للفرد وللمجتمع المسلم على السواء فهو فرصة لإصلاح النفس وتهذيبها وتزكيتها وتدريبها على العبودية والاستسلام لرب العالمين، وفي نفس الوقت فرصة أخرى لتحقيق التعارف والتعاون بين المسلمين ولم الشمل وإصلاح ما فسد من العلاقات بين الشعوب وتحقيق التكافل وتبادل الخبرات بين المسلمين
فنسأل الله أن يتقبل من حجاج بيته وأن يرزق كل مشتاق لزيارة بيته الحرام وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق وأن يول عليهم من يرفع راية الاسلام ويطبق شريعة الله التي تحمل الخير للدنيا بأسرها.