عاشت السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أصعب الفترات في حياتها مع رفيق دربها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه، وسط معاناة من التعذيب والاضطهاد، رأت أول شهيدة في الإسلام سمية وهي تطعن في موطن عفتها، وشاهدت الرعيل الأول تاركاً وطنه إلى من لا يظلم عنده أحد، رأت زوجها وهو يأخذ بيدي أصحابه إلى الصبر والثبات، وإلى المضي قدماً إلى فردوس السماء، عاشت كل هذا صابرة محتسبة مضحية بكل ما في طاقتها عوناً ودعماً لزوجها، دعمت الإسلام وأخرجت كل ما لديها بتفان وإيثار، وضحت بكل ما لديها حتى استطاع الإسلام أن ينهض بمالها رضي الله عنها.
الدعم النفسي والمعنوي
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ- ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ..» (رواه البخاري).
وهنا نرى صورة واضحة لزوجة مؤمنة بزوجها وبطاقاته وإمكانياته وسيرته، فما اتهمته بأنه غير جاد مثلاً، ولكنها مؤمنة بأن زوجها سيكون له شأن عظيم وبهذا أقسمت.
إن خديجة، رضي الله عنها، تتجاوز بروحها اللطيفة الخفيفة أن تكون سكناً لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تكون سكناً لرسالة السماء الساكنة في قلب ووجدان زوجها فكانت داعمة ثابتاً راضية أمام هذا الحدث وغيره في حياة زوجها.
الحصار والجوع
وكعادتها رضي الله عنها مضرب مثل في زوجة حاضرة كل أحداث زوجها برضا وعطاء وثبات، شاركته الحصار الذي ضربه كفار قريش على المسلمين في شِعب أبي طالب لثلاث سنين، مانعين الطعام والشراب، بل وكل أنواع التعامل من بيع وشراء وحتى الزواج، فتأثّر المحاصرون وبلغ التعب والنصب والجوع منهم مبلغاً حتى أكلوا ورق الشجر، لم يكن يصلهم الطعام إلا ما هو قليل، ومن القليل ما كان يرسله حكيم بن حزام بن خويلد، ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها، وقد اعترضه مرة أبو جهل، لولا تدخل أبو البختري قائلاً: إن هذا طعام لعمته عنده ويبعثه لها. (قاله صاحب سير أعلام النبلاء شمس الدين الذهبي بتصرّف).
الدعم المالي
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها من أغنى نساء مكة، وقدمت دعماً مالياً كبيراً لحبيبها وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم في تحمل الأعباء المالية لدعوته ونشر الإسلام، وأنفقت ثروتها في سبيل إنجاح الرسالة النبوية.
وكم أنفقت من مالها لمساندة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والإسلام، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في وصف أمنا خديجة أنَّه قال: «وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ» (رواه البخاري).
وفي مقدار ما أنفقته جواب الزهري حين سأله أحدهم: هل أنفقت خديجة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً؟ فقال: وأربعين ألفاً، وأخذ يكرِّرها. (قاله سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان في تواريخ الأعيان بتصرف).
عام الحزن
لذا، عندما توفيت رضي الله عنها كان الحداد وفاء وتعظيماً وتخليداً لذكراها، وسماه أهل السير «عام الحزن» لحزنه الشديد على فراقها، فقد فاض القلب بالحزن والعين بالدمع على من قدمت نفسها ومالها والتي أصبحت رمزاً وقدوة لكل زوجة داعمة لمشروع زوجها.