الناس منذ قديم تتنافس باسم الدين والإسلام في التشدد والغلو والعنف على النفس والناس من بوابات التعبد وطلب التقوى.
وقد دلت قراءة الأحاديث الشريفة التي تناولت هذه القضية على حضور الوعي بها في مسيرة التربية النبوية التي توجهت للصحابة رضوان الله عليهم مع التقدم الإيجابي في بناء المجتمع الإسلامي في دولة المدينة بعد الهجرة المشرفة.
نموذج دال يشخص الداء ويمارس العلاج
ومن النماذج الفاعلة في هذا السياق ما جاء في السُّنة المشرفة الصحيحة من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري وشرحه ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»، كتاب «الاعتصام بالكتاب والسُّنة»، باب «ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع»، 13/ 376 حديث رقم 7301).
والحديث وارد في ترجمة باب أو عنوان تتضمن مصطلح «الغلو»، وهو مرادف من بعض الوجوه الدلالية للعنف والتشدد.
يقول الحديث: قالت عائشة رضي الله عنها: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه؟! فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية».
أسلوب تربوي أخلاقي
يلوذ الحديث الشريف بتقنية التعمية «ما بال أقوام»؛ والمقصود من توظيفها منع مادة الإحراج على المتنزهين المتشددين، وقطع الطريق على معاندتهم إن تكشف أمرهم، وتعري موقفهم المتشدد، وهذا الأسلوب التربوي الأخلاقي ناتج وعي بنفسيات المدعوين، وتعزيز لغرض التراجع عن التشدد.
البنيات المعجمية والتركيبية المعززة لمقاومة «الغلو» في الحديث
الحديث الشريف يقرر أن التقوى لا تعني مخاصمة التسامح، ولا تعني الارتباط بالغلو أو المبالغة في التشدد، بما يشق على البشر، وهو يدخل إلى ذلك من باب إخبار عائشة رضي الله عنها عن صنيع النبي صلى الله عليه وسلم بما هو إخبار محب عن حبيبه، وملازم له بجملتين مؤكدتين، هما: «صنع النبي»، و«ترخص فيه»، وهما فعلان ماضيان يؤكدان وقوع الأمر، ودلالة «صنع» تدخل بنا إلى مجال العمل والفعل والممارسة الاجتماعية وليس القول فقط.
ويستعمل الحديث في الجهة الأخرى الفعل «تنزه» مسند إلى «قوم» بالتنكير؛ ليدل على أمرين بالغي الوضوح، هما: أن التشدد والغلو ربما زين الشيطان مجال الدخول إليه من باب التورع، وهو بعض ما تتحرك به دلالات الفعل «تنزه» من جانب، كما يدل الإسناد إلى قوم النكرة على المنهج النبوي في معالجة الأخطاء الاجتماعية العملية في حركة الناس والمجتمع القائم على عدم التشهير بالمخطئ، وهو أمر مهم جداً يعين على تعديل السلوك، وتخفيف المقاومة، وتحقيق عدم الإحراج؛ استبقاء لمسيرة الحياة بين الناس.
الحديث لا يقف طويلاً أمام الشيء الذي صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنزه عن فعله، فعبر عنه بقوله «شيئاً» في: «صنع شيئاً»؛ لأن العبرة ليست في تسمية الشيء هذا، وإنما العبرة في أنه من صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يروم بذلك عدم تعيين مادة المنع والمحاصرة في شيء بعينه، بل يروم تعميم المنهج أن يسير الناس في الأمة مسيرته صلى الله عليه وسلم في المسامحة والترخص ما قام الدليل على شرعية المسامحة والترخص، وهذا منهج نبوي أصيل في التأتي لمعالجة الأمور.
والحديث يلوذ بأسلوبيات ناتجة من سياق كونه معلماً يبدأ بحكاية المسألة تشويقاً حتى إذا جاء الجواب استقبلته النفوس باللهفة والقبول الذي يقف خلفه التطلع والانتظار.
ثم إن الحديث يلوذ بتقنيات جمالية تعزز رسالته المقاومة للغلو والتشدد، من طريق توظيف الطباق في استعماله الفعل «صنع، أو عمل»، وما يعاكسه من الفعل «تنزه، أو امتنع»، وهو الأمر الذي يعين النفس المسلمة على الإقبال على الفعل الذي دعمه صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبله والتعاطف معه، ويعزز التنكر والنفور من الفعل الذي امتنع منه القوم، لأنه امتناع يتحرك على قاعدة عدم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
والعبقرية اللغوية المنسربة في نفس عائشة رضي الله عنها بأثر ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبدى وتظهر من خلال استعمالها الفعل «تنزه» الذي يتحرك بحمولات دلالية تتجاوز الدلالة على البعد عن الأشياء إلى تركها استقذاراً، وهنا مكمن الخطر الذي يجيش النفس المسلمة ويستجمع عناصر مقاومتها لهذا المسلك الرافض لامتناعهم عن قبول تسامح النبي صلى الله عليه وسلم وترخصه.
وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم نقل للأجواء، وتعديل للمناخ بتحويل النفوس من مقامات النفور إلى مقامات الهدوء من طريق الحمد لله والثناء عليه، بما يحققانه من استعادة السلام النفسي للمخاطبين، ثم الإخبار عن مسلكه في الحياة بتطبيق تقنية بلاغية عامة تترك ذلك الذي صنعه، وتنزه القوم عن فعله إلى المجال الأوسع وهو التذكير والتعليم، التذكير بحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث لكي يتابع، وأن مقام التعليم يقتضي التذكير الدائم بأنه أخشى خلق الله لله، «أعبد خلق الله لله»، وهذا التذكير هو بوابة ترسيخ المسألة في النفوس، فإذا رسخت كانت المتابعة يسيرة سهلة، وكان حصار التشدد مثمراً فاعلاً! الحديث يفتح الباب أمام محاصرة الغلو والعنف بإستراتيجية ثابتة عمادها المستنبط من فحص الإبداع اللغوي للحديث الشريف.
ماثل في:
أولاً: تعميم القضية.
ثانياً: عدم إحراج المتورط، ومعاونته على تعديل السلوك بقطع مادة العناد والمقاومة.
ثالثاً: التبشير والتخفيف والتلطف.
رابعاً: التعليم والتذكير الدائم.