مما أُثِر عن أسلافنا من الحِكَم أن «الواجبات أكثر من الأوقات»، ومما استقرأتُه من الواقع أن الطموحات أكبر من الإمكانات.
لذلك كان لزاماً على العاقل أن يرتب وقته فيصرفه للواجب الأهم ثم الذي يليه، وكان لزاماً عليه أيضاً أن يرتب جهده فيبذله في الطموح الأهم ثم الذي يليه.
هذا المعنى الذي يكاد يكون مسلَّمة عقلية هو ما نسميه في حياتنا «الأولويات».
الطموحات أصل الأولويات
ومما استقرأتُه أيضاً أن الطموحات لدى الإنسان تمر بمراحل ثلاث:
الأولى: مرحلة الطموح اللاعقلي؛ وتكون جلية في الأطفال الصغار واسعي الخيال قليلي الخبرة في الحياة، فيطمحون لكل الكمالات البشرية جملة.
الثانية: مرحلة ثورة الطموح العاقل؛ وهي خاصة بالشباب، فثورة الطموح في نفوسهم من حيث إنهم يحبون أن يحصلوا على كل شيء، كما الأطفال، والعقل في نفوسهم من حيث إنهم أدركوا أن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وأن الحياة لا تعطي كل شيء جملة، وفي هذه المرحلة تبدأ حاجة الإنسان لتعلم ترتيب الأولويات في حياته.
الثالثة: مرحلة الطموح الواحد؛ وهي حالة يصل إليها الإنسان مع تقدم سنه، وإدراكه حتمية رحيله عن الدنيا، وإدراكه أنه لن يحصل على كل ما يتمنى، فيبدأ التركيز على طموح واحد، وغالباً ما يكون نتاجاً لما تربى عليه وعاشه في رحلة الحياة، فالمسلم مثلًا في هذه المرحلة يطمح إلى حسن الخاتمة والموت على الإسلام، أما غيره من الناس فلكل وجهته، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148).
والأولويات هي الطموحات التي يوليها الإنسان اهتماماً أكبر ويسعى لتحقيقها قبل غيرها.
ولا شك أن الإنسان يستقي أولوياته بحسب ما نشأ عليه في بيئته وزمانه، فلكل جيل من البشر أولويات تكاد تكون عامة فيه، ولكل مجتمع من الناس أولويات تكاد تكون عامة فيه.. وقد تجد من يخالف أهل جيله ومجتمعه ويكون له أولويات يستغربونها، لكن ذلك ليس القاعدة الغالبة.
أولويات زمان
وتأمل معي، أيها القارئ الكريم، اهتمام شبابنا التعليمي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، تجد أن جلهم كان يطمح لدخول كليات الحقوق، وكانت الحقوق تمثل قمة الهرم في التعليم، ذلك لأنها في ذاك الوقت كانت تخرّج رجال الدولة، فمنهم الوزراء والقضاة والساسة المخضرمون.
وكان غالبية الناس يعلمون صعوبة هذا المرتقى عليهم، فانطلقوا يبحثون عن بديل يعطي الوجاهة والمكانة ويقرب الأولاد أن يكونوا في زمرة رجال الدولة، فوجد كثير منهم ضالتهم في التعليم الأزهري، ففيه تلك الفوائد مع ما له من المكانة الدينية، فقصده المصريون من كل الأقاليم، بل قصده العرب من جميع الدول.
ثم صارت كليات الطب والهندسة قمة الهرم زمناً طويلاً، بسبب عوامل اجتماعية كثيرة.
ثم بدأت قريباً التغيرات تلوح في الأفق، فنرى تحول الشباب لدراسات التكنولوجي والبرمجة، بسبب ثورة التكنولوجيا في العصر الحالي.
واجتماعياً، كان الشاب والفتاة كل همهما أن يتزوجا ويكونا أسرة مستقرة فيها أولاد يسعون في تربيتهم كما جرت سُنة الحياة، ولا مانع أبداً أن يتزوجا في بيت العائلة في حجرة صغيرة.
أما الآن فتأخرَ الزواج كأولوية لدى الفتيان، بل لدى الفتيات أيضاً، بسبب تغير الأفكار، فصاروا يفضلون بناء أنفسهم مادياً واجتماعياً أولاً، ووصل الأمر أن يبلغ أحدهم الأربعين وهو ما يزال عزَباً، وتبلغ إحداهن الخامسة والثلاثين ولا تجد غضاضة وتتدلل على الخطاب كما لو كانت بنت سبع عشرة سنة، بل بلغ بالبعض أن يرفض مبدأ الزواج من أصله.
وعلى مستوى المهن، كان القضاء والتدريس والمحاماة أملاً لكل شاب، ومن رزق منها فقد اجتمعت له السعادة في ذاك الوقت، وكانت هناك مهن دونية ينظر لها بازدراء.
أما الآن فصار الشاب يحلم بأن يكون ممثلاً، أو مغنياً، أو لاعب كرة، لما يرى من بريق الشهرة والمال الذي يحيط بهؤلاء.
نصيحتي للشباب
أخي الشاب، إنما غرضي أن تكون على بصيرة في بدايات رحلتك في الحياة، فلا يمر منك العمر في تخبط، ولا تندم حين يولي زمانك ولم تفد منه كما ينبغي.
فاعلم أن الإنسان بطبعه يحب أن يكون أحسن الناس في كل شيء، فيريد أن يكون أغنى الناس، وأقوى الناس، وأجمل الناس، ويريد المنصب ليكون سلطان الناس، ويريد الشهرة، ويريد الشهوة.. يريد كل شيء.
وهذا قد نتجاوز عنه في المراحل الأولى من الطفولة، حين لا يستوعب الطفل بوضوح أن ليس كل ما يتمنى المرد يدركه، إنما الحياة تعطي وتأخذ، وتمنح وتمنع.
ويبدأ الإنسان مع تقدم سنه ونضوج عقله يستوعب أنه لن يستطيع أن يكون كل شيء، وأنه إن بلغ الكمال أو قاربه في جانب فسيظل فقيراً في جوانب، وصدق القائل:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فعليك، إذن، أن تختار ميدان جهدك وبَذْلك لتحقق ما تريد في أقرب الجوانب لنفسك وأكثرها إسعاداً لروحك، ولا يغرنك كثرة السالكين وجهة معينة، ولا يغرنك ضغط المجتمع عليك، بل امض حيث تجد نفسك، وحيث تتوقع سعادتك، ما دام لا ينافي شرعاً ثابتاً.
ويعينك أن توقن بأن المال، والمكانة في قلوب الناس، والشهرة، كلها رزق مكتوب، وسيأتيك منه ما قدر لك ربك، فطب نفساً.