في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي الهائل، الذي نشهده في عصرنا الحالي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت من أبرز المصادر التي يستقي منها الأطفال والمراهقون المعلومات والمعارف والتسلية والترفيه، وهم في فئة عمرية حساسة ومتأثرة بكل ما يحيط بها من مؤثرات خارجية، سواء كانت عائلية أو اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية.
ومن بين هذه المصادر تبرز ظاهرة انتشار الدراما والأغاني غير العربية، خاصة الكورية والغربية، بين هذه الفئة العمرية في المجتمعات العربية، التي تعود إلى عدة عوامل تسهم في جذب انتباه الأطفال والمراهقين، على رأسها عامل التشويق والإثارة، إذ تتمتع الدراما والأغاني غير العربية بإخراج فني متقن وإضاءة جذابة وصورة عالية الجودة، إضافة إلى حبكة درامية متنوعة ومشوقة تلامس مختلف الأذواق والاهتمامات.
كما يعود التعلق بهذا المحتوى إلى توفيره حالة الهروب من الواقع التي يحتاجها الأطفال والمراهقون في المجتمعات العربية، الذين يعيشون ظروفًا صعبة تتعلق بالحروب والنزاعات والفقر والبطالة والتهميش والقمع والتنمر، ما يؤثر سلبًا على نفسيتهم وثقتهم بأنفسهم.
فمشاهدة الدراما وسماع الأغاني غير العربية يمثلان وسيلة للهروب من هذا الواقع المرير، والانغماس في عوالم خيالية توفر لهم التسلية والمتعة والانبساط، بحسب دراسة نشرتها مجلة «ميدفوردليس» عام 2021.
ولأن الأطفال والمراهقين يشكلون شخصياتهم وهوياتهم من خلال التفاعل مع محيطهم الثقافي والاجتماعي، وكذلك من خلال التعرف على ثقافات أخرى مختلفة عن ثقافتهم، فهم يتساءلون عن حياة الناس في بلدان أخرى، وعن عاداتهم وتقاليدهم وأسلوب حياتهم، ويجدون في الدراما والأغاني غير العربية فرصة للاطلاع على جوانب من هذه الثقافات، سواء كانت كورية أو غربية أو أخرى، وكذلك لتعلم لغات جديدة.
ويؤثر رأي الآخرين أيضاً في اختيارات الأطفال والمراهقين، خصوصًا في مجالات الموضة والفن، فهم يحبون أن يكونوا جزءًا من مجموعة اجتماعية تشاركهم نفس الاهتمامات والذوق، ولذا يتبعون صيحات الدراما والأغاني غير العربية التي تحظى بشعبية كبيرة بين أصدقائهم أو قرنائهم أو نجوم المشاهير، حتى لا يشعروا بالغربة أو الانعزال.
ويمثل التحدي عامل جذب آخر للأطفال والمراهقين، الذين يحبون أن يثبتوا قدراتهم وإبداعاتهم في مجالات مختلفة، خاصة مجال الفن، بحسب الدراسة.
غير أن كل عوامل الجذب سالفة الذكر تمثل سلاحاً ذا حدين، ويمكن أن تكون مدمرة عبر تشويه القيم، إذ قد تحتوي بعض الدراما والأغاني غير العربية على مشاهد أو كلمات تتعارض مع المعايير الأخلاقية والدينية والاجتماعية للمجتمعات العربية، مثل المشاهد الجنسية أو العنيفة أو المخدرات أو التحرش أو التمرد أو التطرف.
وقد يؤدي ذلك إلى خلق صورة مشوهة عند الأطفال والمراهقين عن مفهوم الحب والزواج والأسرة والصداقة والوطن، وصولاً إلى الدين، فضلاً عن تقليل احترامهم للآباء والأمهات والمعلمين والكبار، وإلى تقليد سلوكيات سلبية أو خطيرة.
كما أن عدم ترشيد تفاعل الأطفال والمراهقين من مثل هذا المحتوى قد يؤدي إلى إضعاف انتمائهم إلى هويتهم الثقافية الإسلامية ولغتهم الأم، خصوصًاً إذا كان هذا الاستهلاك مفرطاً أو أحادياً، وقد يتأثرون بثقافات أخرى بشكل سطحي أو مغلوط، ويتبنون قيمًا أو عادات أو مظاهرًا لا تتناسب مع خصوصيتهم أو تاريخهم أو تراثهم، وقد يفقد الأطفال والمراهقون احترامهم أو اهتمامهم بالأدب والفن والإبداع العربي، ويضعفون قدراتهم في التعبير بلغتهم بشكل صحيح أو جذاب.
ومع إضاعة كثير من الوقت والجهد في استهلاك الدراما والأغاني غير العربية، قد يتحول الأطفال والمراهقون عن تحقيق أولوياتهم في التعلُّم أو التطور أو المشاركة في نشاطات مفيدة أو هادفة، بما قد يُسَبِّب تشتت التركيز أو التذكُّر أو التفكير، وتقليل المرونة في التعامل مع المواقف المختلفة.
ويعني ذلك أن تأثير استهلاك هذا المحتوى ذو أثر خطير على الصحة الجسدية والنفسية، قد يشمل الإصابة المزمنة بالإرهاق أو الأرق أو الصداع أو السمنة أو ضعف البصر أو السمع، نتيجة للجلوس لفترات طويلة أمام شاشات الهواتف أو الحواسيب أو التلفزيونات، كما قد يسبب القلق والاكتئاب أو العزلة أو الغيرة أو الكره أو العنف، نتيجة للتعرض لمشاهد أو كلمات تثير هذه المشاعر.
ويتسلل كل هذا القدر من المشاعر والأفكار من المحتوى الأجنبي إلى مستهلكيه كأنه سم ثعبان قاتل، وإزاء ذلك، أصبحت رقابة أولياء الأمور والمعلمين بمثابة توعية ضرورية للأطفال والمراهقين بأهمية استخدام هذه المحتويات بشكل معتدل ونقدي ومنتقى، وبأهمية تطوير ذوقهم وثقافتهم وهويتهم بشكل متزن وإيجابي.
ويتعلق تنمية العقل الناقد إزاء المحتوى الأجنبي بتوعية الأطفال والمراهقين بأهمية الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية والدينية، وبأهمية التمييز بين الحقيقة والخيال فيما يشاهدونه أو يسمعونه، وتشجيعهم على قراءة الكتب والمجلات والصحف العربية، ومشاهدة البرامج والأفلام والمسلسلات التي تعكس تاريخهم وتراثهم وإبداعهم، والاستماع إلى الأغاني التي تحمل قيمًا ورسائل إيجابية، وبلغتهم الأم.
كما أن تنظيم الوقت المخصص للاستهلاك الإعلامي، وتحديد مواعيد محددة للدراسة والنوم والراحة والترفيه، وتجنب الإفراط في مشاهدة أو الاستماع إلى محتويات غير مفيدة، وتطوير مهارات حل المشكلات الشخصية، وتعلُّم كيفية التعامل مع المشكلات اليومية بطرق منطقية وإبداعية، وتجنب الهروب من المشكلات باللجوء إلى المحتويات الترفيهية، كلها عوامل من شأنها ضمان حصانة ذاتية للأطفال والمراهقين من مشكلات فقدان الهوية.
إن أزمة الهوية التي تواجه أجيالنا الجديدة تمثل خطراً حقيقياً على مستقبل مجتمعاتنا العربية، وهي أزمة تحمل في طياتها أيضاً بشائر جيل استثنائي إذا ما نجحنا في حفظ تصوراتهم للدين واللغة وتاريخ أمتهم، وهو ما تتحمل مسؤوليتها مؤسسات التربية والتعليم من جانب، وبيوتنا من جانب آخر.