الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من حبهم لآبائهم وأمهاتهم وذرياتهم، بل وأكثر من أنفسهم، وظلوا ثابتين على هذا الحب حتى لقوا الله تعالى، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم أصيبوا بأعظم مصيبة في حياتهم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» (صححه الألباني).
ولقد ترجموا هذا الحب بالنصرة له في حياته، فلما مات ثبتوا على العهد، بل ازدادوا نصرة له، وفاء له صلى الله عليه وسلم، لأنهم يعلمون أن نصرته نصرة للدين، وأداء ونشر رسالته للعالم أجمع هي الهدف الذي جاء لأجله، فهبوا لتبليغ تلك الرسالة، ولتحقيق ذلك الهدف، وكانوا في كل حركاتهم وسكناتهم على خطاه صلى الله عليه وسلم، وليس أدل على ذلك من موقف ابن عمر رضي الله عنه، وما أعجبه! فقد رُويَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ يَأْخُذُ بِرَأْسِ رَاحِلَتِهِ يَثْنِيهَا، وَيَقُولُ: لَعَلَّ خُفًّا يَقَعُ عَلَى خُفٍّ، يَعْنِي خُفَّ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ما هذه الِنفوس التي سمَتْ لتَجْعل من الخطى آثار حب، باتت تتبعها وتتقفَّاها وتسير على خطاها، لعلَّ خُفًا يقعُ على خف، لتنال شرف اتباع الحبيبِ حتى في أدق تفاصيلِ حياته، وإن كان خفًا يقع على خف، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟! كيف باتباعه في الصلاة والصيام والدعوة والجهاد؟! كيف في حمل رسالته وتبليغها للبشرية؟! كيف في حفظ سنته كاملة لتأديتها كأمانة للناس؟!
جسدوا الحب واقعًا، وأحيوا معانيه، وبَلغوا من الحُبِّ والاتباعِ مبْلغًا عَجزت عن وصفهِ كلُ كتب الدنيا، وتقاصرت أمامه الهمم، وانحنت له الهامات.
كل هذا في اتباع خُطى ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف باتباعه هو في منهجه ووصفه، وطعامه، وشرابه، وتعامله، وابتسامته؟!
وهذه امرأة ضعيفة تعي وتعلم منْ تُحب ولمَ تحب؟ إنها أم أيمن رضي الله عنها، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا. (رواه مسلم، 2454).
فلو كان هذا هو علم المرأة الضعيفة وحالها وفقهها وحبها للرسول صلى الله عليه وسلم ينبع من حبها لاتصال السماء بالأرض، وبتلقي الوحي وتعاليم الدين، فكيف بغيرها من الأصحاب رضي الله عنهم؟!
وهذا سيد الصحابة رضي الله عنهم وهو يجسد لنا قمة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ، وَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ قَالَ: لِيَتِمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، وَقَدِ ارْتَدَتِ الْعَرَبُ إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ؛ لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِلَّتِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَرَبُ عَلَى مَا تَرَى قَدِ انْتَقَضَتْ بِكَ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَرِّقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخْطَفُنِي لَأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لَأَنْفَذْتُهُ. (البداية والنهاية، 9/ 422).
علم الصديق أن النجاة لا تكون إلا بالاتباع وقد كان.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خَشَبٍ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ، رُدَّ هَؤُلَاءِ، تُوَجِّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؟! فَقَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَوْ جَرَّتِ الْكِلَابُ بِأَرْجُلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَجَّهَ أُسَامَةَ فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَبِيلٍ يُرِيدُونَ الِارْتِدَادَ إِلَّا قَالُوا: لَوْلَا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ قُوَّةً مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا الرُّومَ. فَلَقُوا الرُّومَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، فَثَبَتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ. (البداية والنهاية، 9/424).
أَحبُّوا فصدقوا، ثم اتبعوا فأحسنوا، ثم عملوا فأجادوا، إنما المحبة طاعة واتباع.
فأين أمة الإسلام من هذا الحب، وهذا الاتباع، وتلك الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!