قال الله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) (النور: 11)، نزلت هذه الآية المباركة في حادثة كبيرة، وهي حادثة «الإفك» التي كانت كفيلة بزعزعة المجتمع المسلم كله في بدايته؛ حيث نالت من زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أنزل الله تعالى هذه الجملة القرآنية المباركة ليرسم من خلالها للأمة المنهج السوي في التعامل مع بعض الأزمات التي تنالها في رموزها ومقدساتها؛ سواء من المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، أم من الكفار المجاهرين بكفرهم.
فمنذ بداية الدعوة ولم تتوقف الأسهم الموجهة للنَّيْل من مقدساتها بصور شتى؛ فتارة يهينون القرآن الكريم، وتارة يسيؤون للرسول العظيم، وتارة يعتدون على بعض المساجد.. إلخ.
وقد تختلف أسباب هذه الاعتداءات قديماً وحديثاً، ويتشعب الحديث عنها كثيراً، ونكتفي بما ذكره د. أحمد المجدوب، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، في معرض تحليله لمنع غير المسلمين في الغرب فتياتهم من الزواج بالمسلمين؛ حيث يرى في هذا دليلاً على تنامي الخوف الأوروبي من التأثير الروحاني والعقائدي للدين الإسلامي لمن يقتربون منه؛ فديننا الإسلامي يوفر الكثير من الراحة النفسية والروحية لمن يعتنقه، مضيفاً أن هناك دراسات كثيرة تؤكد قدرة أي زوج مسلم على اعتناق زوجته للإسلام لما تجده فيه من استقامة وطهارة وأمانة وقوة روحية، وهو سلاح لن تستطيع أوروبا مواجهته.
ولما كان أعداء الإسلام يعجزون عن مواجهته بالحجة والبرهان، فإنهم لجؤوا إلى الإساءة إليه ومحاولة تشويهه بالكذب والبهتان.
وهنا يأتي السؤال: كيف تكون هذه الاعتداءات خيراً لنا؟
والإجابة أنها ستكون خيراً لنا حينما نحسن استثمارها وتفعيلها بصورة عملية لصالح قضايانا، وقد تتنوع وسائل هذا التفعيل، وتختلف حسب القائم بها؛ فما يمكن أن تقوم به الحكومات يختلف عما يمكن أن يقوم به عموم الأفراد، وما يقوم به الأفراد يختلف عما يمكن أن يقوم به الدعاة وذوو التأثير في المجتمع.. إلخ.
وفيما يلي بعض المقترحات التي يمكن القيام بها:
أولاً: علينا جميعاً؛ حكومات وشعوباً، أن نؤمن بأننا ننتمي لدين يملك من مقومات الانتشار والنمو ما لا يتوافر لغيره، وأن كتابه هو كتاب الله المحفوظ من لدن العلي القدير الذي تكفل بحفظه؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، وأنه المهيمن على كل الكتب، وأن كل هذه المحاولات ما هي إلا كما قال الشاعر:
كناطحٍ صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعِلُ
فالذي أحرق، في حادثة السويد مثلاً، هي ورقات المصحف، أما القرآن الكريم فهو محفوظ في الصدور قبل السطور.
وهذا يجعلنا نتعامل مع الأمر بعقلانية منطلقة من شعور بسمو رسالتنا وعلو ديننا الذي أغار عليه صدور هؤلاء الحاقدين.
ثانياً: على الحكومات دور كبير في استثمار هذه الأمور استثماراً دعوياً، وخير مثال على هذا ما قامت به حكومة دولة الكويت على خلفية حرق المصحف الشريف، مؤخراً، في السويد؛ حيث قررت طباعة 100 ألف نسخة من المصحف الشريف مترجمة إلى اللغة السويدية لتوزيعها في السويد؛ بهدف تأكيد سماحة الدين الإسلامي ونشر القيم الإسلامية والتعايش بين البشر جميعاً، وعلى باقي الحكومات أن تحذو حذوها بوسائل متنوعة بما تملكه من إمكانات وكفاءات.
ثالثاً: على الحكومات أيضاً أن تفسح المجال للشعوب للتعبير عن رأيها من خلال الوسائل السلمية والمشروعة التي قد يكون لها أثر كبير في التعريف بالقضية ونشرها لدى شعوب الغرب، ومن ثم يبحثون عنها فيكون ذلك سبباً في اهتداء بعضهم كما حدث في الكثير من المواقف قبل ذلك.
رابعاً: على الجماهير المسلمة في مختلف الدول التفاعل الإيجابي والفعال والمنضبط مع هذه الحوادث بما يتناسب مع كل منها؛ بحيث يكونون سبباً لنشر القضية لدى الشعوب الغربية، كما أشرنا في النقطة السابقة.
خامساً: على المسلمين المقيمين في الغرب دور مهم ومحوري في هذا السياق من خلال إقامة الفعاليات وطباعة المنشورات التعريفية بالقضية، والتواصل المباشر مع الأفراد في الغرب لاستثمار الفرصة للتعريف بالإسلام ونشره.
سادساً: تعد مثل هذه الحوادث فرصة ذهبية للمراكز والمؤسسات الدعوية في الشرق والغرب للطرق على الحديد وهو ساخن لتشكيل مفاتيح دعوية وتعريفية بالإسلام وكتابه ورسوله من خلال مختلف الوسائل الدعوية الممكنة.
سابعاً: كما أن للمراكز الدعوية دوراً مهماً في استثمار هذه الحوادث؛ فكذلك على الشخصيات الدعوية المؤثرة، خاصة التي تملك وسائل للتواصل والانتشار في الغرب من خلال التعريف بحقيقة الإسلام وشريعته السمحة.
ثامناً: على الدعاة؛ أشخاصاً ومؤسسات ومراكز، استحضار المعنى القرآني الرائع في التعامل مع الغرب؛ (لَيْسُواْ سَوَاء) (آل عمران: 113)؛ فلا يتم التعامل مع الغرب كله كأنه شيء واحد في توجهاته وأفكاره وتصرفاته تجاه الإسلام؛ بل لا بد من التفريق بين المسالم والمحارب؛ فنختار لكل فريق ما يناسبه من المصطلحات والمفاهيم ولغة الخطاب، ولندرك أن دور الداعية هو البلاغ وليس الهداية؛ فيتجه للفريق الأول (المسالم) بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لعل الله يفتح قلبه للهداية، أما الفريق الثاني (المحارب) فليتركه للقوانين والمواثيق الدولية التي يقع تفعيلها على الحكومات، وليكتفِ بالدعاء له بالهداية؛ فقد يفتح الله تعالى قلبه لنور الإسلام، كما حدث مع الهولندي آرنولد فاندرون، منتج فيلم «فتنة»، الذي أعلن إسلامه، ثم أدى فريضة الحج عام 2013م، وقال على إثر ذلك: «خجلي تضاعف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث جال بخاطري حجم الخطأ الكبير الذي وقعت فيه قبل أن يشرح الله صدري للإسلام، لقد قادتني عملية البحث لاكتشاف حجم الجرم الكبير الذي اقترفته».
تاسعاً: تمثل وسائل التواصل الاجتماعي والطفرة التكنولوجية الكبيرة فرصاً رائعة ليقوم كل مسلم في أي مكان في العالم بدوره في التعريف بالإسلام ونشر دعوته، والرد على المسيئين له بكل الوسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية وبمختلف اللغات، خاصة مع انتشار مواقع التعريف بالإسلام.
عاشراً: في أثناء القيام بدورنا تجاه ديننا علينا أن نستصحب قول الله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108)؛ فلا نرد على الإساءة لديننا بالإساءة للشرائع الأخرى حتى لا يكون ذلك مدعاة لهم للتمادي في الإساءة؛ بل ليكن شعارنا: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
حادي عشر: على أولياء الأمور والمعلمين والمربين في المؤسسات التعليمية والتربوية استثمار مثل هذه الفرص لترسيخ قداسة الرموز الإسلامية في نفوس الأبناء والطلاب بمختلف الوسائل، وحثهم الرد على الإساء للقرآن –مثلا- بحفظه وتدبره، والإساءة للرسول –صلى الله عليه وسلم- بالتعرف على سيرته والاقتداء به…إلخ.
وفي النهاية، فإن هذه المقترحات ليست هي كل ما يمكن فعله في الرد على هذه الإساءات؛ بل تأتي في مجال الاستثمار الدعوي فقط لها، وتحويل المحن إلى منح، كما أنها لا تعني أن تصرفاتنا يجب أن تكون دائماً ردود فعل؛ بل علينا الأخذ بالمبادرة والانطلاق بديننا وشريعتنا في الآفاق، مقتدين في هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الذين جابوا الأرض بدين الله تعالى حتى وصل إلينا بعز عزيز وذل ذليل؛ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8).