كان انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفييتي إيذاناً بإعلان سيطرة الولايات المتحدة كقطب وحيد على رأس النظام الدولي، وإعلاء النموذج الحضاري والثقافي الأمريكي الغربي باعتباره النموذج الأوحد الأجدر بالاتباع أو التبعية، وقد قرر القطب الأمريكي الأوحد منذ ذلك الحين الدخول في صراعات جديدة لتثبيت هويته وفرضها الجميع، فبدأ عصر «صدام الحضارات» في منتصف التسعينيات، مُعلناً بأن ارتكاز الصراعات العالمية المعاصرة سيكون على الثقافات والأديان وليس الأيديولوجيات كما كان سائداً إبان الصراع الأمريكي السوفييتي، وبذلك تنبأ الغرب -أو عمل على تحقيق ذلك التنبؤ بالفعل- بصراع وشيك مع سائر الثقافات القوية التي تشغل حيزاً معتبراً من العالم، وفي مقدمتها الإسلام والمسلمون، وهو ما لبث أن انطلقت شراراته مع «أحداث الحادي عشر من سبتمبر» ودخل حيز التنفيذ الواقعي.
وكانت «أحداث 11 سبتمبر» قد لفتت أنظار صناع القرار في الولايات المتحدة، وفي الغرب بشكل عام، إلى أن هناك حائلاً لا يزال يقف عثرة في طريق النموذج الأمريكي للعولمة؛ ألا وهو التعليم، إذ يُلقن التعليم للنشء المبادئ والأخلاق التي تُعزز هوياتهم وتعمل على مقاومة العولمة وتغرس في الأطفال حب الأوطان والأديان، ومن هنا بدأ التركيز على تطوير المناهج في العالم العربي.
ورغم أن مسألة المناهج الدراسية وتعديلاتها كانت مطروحة منذ بدء مرحلة التطبيع مع «إسرائيل» وتوقيع معاهدات الإسلام العربية «الإسرائيلية»، فإن «أحداث 11 سبتمبر» قد جعلت من تلك المسألة إجبارية يتم مناقشتها سياسياً على طاولات المفاوضات، واقتصادياً حين الحديث بشأن مساعدات أو منح للدول، حيث أصبحت التعديلات يتم فرضها فرضاً على الدول ولا تتم بقرار داخلي أو اختيار طوعي.
المناهج.. وصناعة الإرهاب
بينما تتبنى النظرة الغربية لإصلاح المناهج مقولة مفادها بأن المحتوى التعليمي للمناهج العربية يتضمن عبارات ومبادئ تتنافى مع التسامح وقبول الآخر، وأن حذف تلك الحفنة من الكلمات من المناهج كفيل بتغيير «عقلية» كاملة، إلا أن تلك النظرة تحمل في طياتها وصماً غير حقيقي للإسلام بأنه سبب للتطرف والعنف، إذ لا تُظهر تلك النظرة مدى توافر متطرفين من غير المسلمين في سائر أنحاء العالم، ولا تقدم إحصاءات دقيقة وعادلة تقارن فيما بين الأحداث العنيفة التي يرتكبها المسلمون بالمقارنة بغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، ومن ثم لا يمكن الجزم بأن الإسلام بشكل عام ومناهج التربية الإسلامية بشكل خاص هي منبع الإرهاب الإسلامي المزعوم.
كذلك، فإن حصر ظاهرة كاملة كظاهرة التطرف والإرهاب –بالتعبير الغربي المرفوض- يُمثل تحليلاً سطحياً ومشوهاً للأسباب الحقيقية، فإذا سلمنا بعداء عربي إسلامي شامل للغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص، فإن ذلك قد يرجع بالأساس إلى أسباب متنوعة تتعلق بالدعم الأمريكي غير المحدود للكيان الصهيوني، وعرقلة الولايات المتحدة للتجارب الديمقراطية وتفضيل الأنظمة الاستبدادية، وتكريس الفقر عبر السيطرة الاقتصادية الأمريكية الشاملة على الأسواق والاقتصادات، فتلك الكراهية المولدة للعنف ضد الولايات المتحدة قد تكون –إذا خضعت لدراسات وافية ومحايدة وعلمية– مجرد ردود فعل لا أكثر لسياسات أمريكية منتهجة منذ عقود إزاء العالم العربي والإسلامي.
ومن ناحية ثالثة، فإن التحليل الأمريكي القائل بإرهاب المناهج الإسلامية والهادف إلى تطويرها لا يعدو أن يكون رغبة في تشويه ممنهج للهوية، بينما الإصلاح الحقيقي للتعليم يجدر به استهداف الإنسان وليس المحتوى التعليمي، وذلك لن يتأتى على الإطلاق عبر عمليات متفرقة من القص واللصق، وبالتالي فإن تلك النتيجة التي توصل إليها صانع القرار الأمريكي –وإن كانت قد نبعت من مقدمات خاطئة بالأساس– فإنها قد آلت إلى تطبيق فوضوي وإصلاحات تلفيقية فشلت في تحقيق ما أراده واضعوها، فلا المناهج تطورت حقاً ولا العداء والكراهية إزاء الولايات المتحدة قد انتهى، بينما أسفرت عن إيضاح مدى التبعية العربية المطلقة للتعليمات الأمريكية ليس إلا.
أمثلة المحذوفات
منذ الألفية الثالثة، بدا واضحاً حجم التغير الحثيث في المناهج الدينية بالدول العربية المختلفة، وكانت مصر والأردن في مقدمة الدول التي ركبت قطار التغيير بعد أن وقعتا معاهدتي سلام مع «إسرائيل»، وتوسعت التغيرات وشملت معظم الدول الإسلامية بتوسع التطبيع واستحكام التبعية السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة.
ويمكن تلخيص أهم المحذوفات التي طالت مناهج التربية الإسلامية في العالم العربي في المحاور التالية:
1- حذف الغزوات والجهاد:
فعلى سبيل المثال، حذف الأردن بعد معاهدة «وادي عربة» عام 1994م دروس غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ضد اليهود من المناهج، وحذف أحاديث وآيات الجهاد في سبيل الله تعالى.
وفي مصر، تم حذف الآيات الخاصة بالجهاد، على سبيل المثال؛ حذفت آية (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، وتم حذف الدروس الخاصة بالمجاهدين والقادة العسكريين من الصحابة مثل خالد بن الوليد، وأسامة بن زيد، وعبدالله بن الزبير.. وغيرهم، بالإضافة إلى حذف درس صلاح الدين الأيوبي، قائد جيوش المسلمين ضد الصليبيين، وعقبة بن نافع أشهر قادة الفتح الإسلامي.
2- إضافة دروس وعبارات التسامح وقبول الآخر:
وفي مقابل إلغاء دروس الجهاد والقتال في سبيل الله والغزوات والفتوحات، تم فرض نصوص تحض على التسامح وقبول الآخر في سائر مناهج التربية الإسلامية العربية والإسلامية، فعلى سبيل المثال؛ تم في مصر عام 2015م إضافة دروس أخلاقية عن التسامح وقبول الآخر والموعظة الحسنة لمنهج التربية الدينية، وحذفت بعض الجمل التي تحض على القتل والعنف.
3- إلغاء المدارس الدينية:
وقد جاء الحذف على صعيد آخر عبر حذف المدارس الدينية نفسها، ففي اليمن، ومنذ 11 سبتمبر، ألغي 1300 معهد ديني كانت قبلة لأكثر من نصف مليون تلميذ، وفي ماليزيا أُلغيت أكثر من 2500 مدرسة دينية، بالإضافة إلى صدور قرارات في اليمن وباكستان بمنع إنشاء المعاهد الدينية بغير إشراف حكومي رسمي مشدد وبمناهج معتمدة رسمياً.
4- تهميش مادة التربية الإسلامية:
سعى التطوير إلى تهميش مادة التربية الإسلامية بعد تفريغها من محتواها، تارة عبر تغيير اسمها في عدد من الدول مثل المغرب الذي استبدل اسم التربية الدينية بالتربية الإسلامية عام 2016م، وفي مصر تم إضافة مادة «الأخلاق والقيم» كمادة إضافية مستمدة من سائر الأديان السماوية عام 2020م، وفي الأردن تم تغيير اسم مادة التربية الإسلامية إلى الثقافة الإسلامية، وكان «التطوير» الأهم هو جعل مادة التربية الإسلامية بشكل عام مادة غير مضافة للمجموع؛ وبالتالي انخفاض الاهتمام بها لمصلحة الاهتمام بالمواد الدراسية الأساسية وانشغال الطلاب عنها.
تطوير مناهج وليس تطوير التعليم
إن لفت الأنظار للسعي الأمريكي الصهيوني الحثيث لتبديل المناهج الدينية الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي لا يجب أن يُفهم بأنه تمسك بالمناهج في صورتها الحالية أو ما قبل ذلك التطوير، بل إن المناهج العربية والإسلامية في أمس الحاجة للتطوير؛ إذ هي في الحقيقة مناهج تم ميراثها من حقب الاحتلال، وهي بالضرورة لا تُعبر عن روح الإسلام وجوهره.
كما أن عملية التطوير يجب ألا يتم حصرها وتسطيحها بتغيير بعض الجمل أو حذف دروس وإضافة أخرى، بل هي عملية شاملة يجب أن تلتفت إلى تطوير العقول والنهوض بالعملية التعليمية التي تشكل المناهج بعضها لا كلها.
وتأتي أهمية تطوير التعليم بوازع داخلي ورفض الإملاءات الخارجية مما أحدثته تلك الاستجابة العربية من توسع التدخل الغربي في المناهج التعليمية العربية، والانتقال من محور الدين إلى محور التاريخ والهوية الوطنية، فقد تضاعفت التدخلات الغربية وبخاصة الأمريكية و«الإسرائيلية» بمرور الوقت في الشأن التعليمي العربي، وتم ربط المنح والمساعدات الاقتصادية بمزيد من الحذف والإضافة للمناهج العربية، وتم الضغط في اتجاه التسامح مع الآخر ممثلاً في الكيان «الإسرائيلي» والمطالبة بحذف كلمة «عدو» من مناهج التربية الوطنية والدراسات الاجتماعية العربية، وهو ما يفتح باباً واسعاً من الحذف والتمييع لسائر القضايا الوطنية والدينية وكل ما يربط العرب والمسلمين بأوطانهم حتى لا يتبقى لهم شيء في النهاية يربطهم بتلك الأرض أو يجمعهم معاً.