شهدت تركيا خلال 27 شهراً تخفيضاً للفائدة، ثم جاءت الحكومة الجديدة بعد انتخاب الرئيس «رجب طيب أردوغان» لفترة رئاسية جديدة لتتخذ منحى مالياً يقوده وزير المالية والخزانة «محمد شميشك» مغايراً لما انتهجه الرئيس «أردوغان» من خفض سعر الفائدة لتحفيز الاستثمار ومعالجة التضخم بزيادة الكتلة السلعية مقابل الكتلة النقدية بعيداً عن مسكنات السياسة النقدية لمعالجة التضخم برفع سعر الفائدة؛ مما ينتج عنه سحب كميات من السيولة وتفييد الائتمان وتعقيم النقود، ولكنها من جانب آخر ترفع من تكلفة الاستثمار ومن ثم تغذي التضخم، أو مسكنات السياسة المالية لمعالجة التضخم بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق، وكل ذلك له تأثيرات انكماشية قد تقود لركود تضخمي، في ظل هذه السياسة النقدية والمالية التشديدية التي تبناها «شميشك».
وكان الأمل معقوداً على خروج تركيا تدريجياً من الخضوع للنظام الرأسمالي والتحول التدريجي لنموذج يصل في نهاية المطاف إلى عودة النظام الاقتصادي الإسلامي الذي حكم بلاد المسلمين لأكثر من 12 قرناً، ولكن السياسة الجديدة أبت ذلك، واستسلمت للنظام الرأسمالي وآلياته ومظالمه.
وقد أدى هذا التوجه في ظل سيادة النظام الرأسمالي الربوي على اقتصاديات العالم إلى استسلام فئة من المسلمين لهذا النظام، وقد غرهم في ذلك استعلاء النظام الرأسمالي، فأخد لسانهم يردد: إنه يستحيل أن يقوم الاقتصاد على غير الربا، والتاريخ القديم والحديث والواقع المشهود والمستقبل المنشود يعري هذه الخدعة وتلك الأكذوبة، التي تظهر إعجازاً اقتصادياً في تحريم الربا، وأن مصيره إن عاجلاً أو آجلاً سيكون كمصير نظام الرِّق الذي سيطر على الاقتصاد العالمي من قبل، وأن نظام الأزمات الرأسمالي وإن كان قوياً ومتوحشاً، فإن ما به من أمراض اقتصادية وأخلاقية ستهوي به حتماً إلى مكان سحيق.
فمن خلال تتبع النظرة للربا في التاريخ الإنساني، نجد أن الربا عرفه الفراعنة وتعاملوا به، ولكنهم وضعوا قواعد تحكمه، وقد تحدث المؤرخ الإغريقي «ديودور» عن القانون الذي وضعه «بوكخوريس» من ملوك الأسرة الرابعة والعشرين (718 – 712ق.م) الذي يقضي بأن الربا مهما تطاولت عليه الآجال لا يجوز أن يصل إلى مقدار رأس المال.
وفي الدولتين الإغريقية والرومانية، كان الربا مستباحاً، وفي الوقت نفسه يستباح المدين إذا لم يوف دينه، حيث يصبح هو نفسه ملكاً للدائن، حتى جاء قانون «صولون» الإغريقي (594 – 572ق.م) ليجعل مسؤولية المدين في حدود ماله وذمته لا شخصه ورقبته، مع وضع سقف أعلى للفائدة لا تتجاوز 12% من رأس المال، وكذلك صنع واضعو الألواح الاثني عشر (451ق.م) في روما، حتى جاء «جستنيان» (527-525م) ووضع «قانون جستنيان» فجعل الفائدة 12% للتجار وأمثالهم، و4% للنبلاء.
ومع ذلك فإن مدينة إسبرطة كانت استثناء، فلم تتعامل بالربا، أو تنظمه، حيث إنها لم تكن ذات طابع تجاري، وكانت المقايضة أساس التعامل فيها، ولم يخول قانونها للغرباء اكتناز الذهب والفضة، وإلا كان جزاؤهم الإعدام.
ويذكر لأرسطو (384 – 322ق.م) لعنه للفائدة قبل المسيحية باعتبارها رباً، حيث كان مفهوم الربا في حصول المقرض على مكسب مباشر من المقترض، فيخصم المقرض مكسبه مسبقاً من المبلغ الذي يقرضه، أما الفائدة فكانت عرفاً عبارة عن مبلغ إضافي يدفعه المقترض للمقرض على سبيل التعويض عند سداد دينه، وقد سئل أرسطو عن الفائدة ومدى اختلافها عن الربا، فرأى أن جوهرهما واحد، فالنقود في حد ذاتها عقيمة لا تلد، فهي في نظره دخل غير طبيعي باعتبارها كسباً ناشئاً عن مبادلات في النقود ترتبط بمجرد الرغبة في زيادة الثروة على خلاف المبادلات الأخرى الطبيعية للأفراد والجماعة، ولم يفرق أرسطو بين القرض الذي يؤخذ لتغطية حاجات استهلاكية أو القرض الذي يؤخذ للتجارة أو غيرها من النشاط الإنتاجي.
ويحلل أرسطو موضوع الربا بقوله: إن الربا مستهجن ويدعو للاستياء الكامل، لأنه يجعل من الرموز النقدية مادة للتملك، وهذا ما يجعل تلك الرموز تفقد الغاية التي وجدت من أجلها، إذ النقود إنما ظهرت لأجل استخدامها في التجارة البينية، في حين أن الفائدة تؤدي إلى نمو كمية النقود، وكما أن الأطفال يشبهون أهاليهم، كذلك هي الفائدة عبارة عن رموز نقدية ناتجة عن رموز نقدية أيضاً، وهذا النوع من الربح غير المشروع غالباً ما يكون مخالفاً للطبيعة.
وقد جاءت الشرائع السماوية بتحريم الربا، فحرمت اليهودية الربا كما جاء في العهد القديم: «إذا أقرضت مالاً لأحد من أبناء شعبي، فلا تقف منه موقف الدائن، لا تطلب منه ربحاً لمالك» (الآية 24 من الفصل 22 من سفر الخروج)، «إذا افتقر أخوك فاحمله.. لا تطلب منه ربحاً ولا منفعة» (الآية 35 من الفصل 25 من سفر اللاويين)، واعتبر أحبار اليهود شعب الرب هم بنو إسرائيل دون غيرهم، وبناء على هذا النص المنسوب للقانون الموسوي حرموا الربا بينهم، وأحلوه مع غيرهم، وفتحوا الباب لنشر الربا بخدعة يهودية خبيثة حتى يومنا هذا.
فاليهود عرفوا بحبهم للمال وامتهانهم التجارة وحب السيطرة، وقد حولوا المال إلى عجل يعبدونه ويسيطرون به على العالم بالربا، وقد جاء في التلمود: «وقد أمرك الرب بأن تقرض المال للغوييم -أي غير اليهود- ولكن أن يكون ذلك لقاء فائدة؛ وبالتالي بدلاً من أن نقدم لهم المساعدة، يكون واجباً علينا أن نلحق بهم الأذى حتى ولو كان من المحتمل أن يكونوا مفيدين لنا»، كما ذكرت رسالة بابا ميتسيا (في التلمود) على ضرورة إقراض اليهود للمال، وتعليم أطفالهم إقراض النقود مقابل رهن، لكي يتمكنوا من تذوق حلاوة الربا، مع تعلمهم مسبقاً كيف يستخدمونه، ويقول موسى بن ميمون في مؤلفه «يد حزقاه» (اليد القوية): «نحن لا نقرض الأجنبي لكي يسد احتياجاته، بل لكي نستفيد منه ونفرض عليه إرادتنا، وهذه أمور محرمة علينا إن صنعناها مع إخواننا اليهود».
والرهن من سمات القروض التي أدمنها اليهود بالربا، حتى إن كعب بن الأشرف من زعماء اليهود بالمدينة في عهد الرسالة لم يكتف بالرهون المادية من سلاح ونحوه، بل كان يطالب برهن النساء والأبناء ضماناً للقروض.