د. عصام العريان
مع بداية مسيرتنا في الحركة الإسلامية، كان “الجهاد” شغلنا الشاغل ولا يزال، وكانت حواراتنا بين بعضنا بعضاً، وبيننا وبين إخواننا من الإسلاميين تدور دائماً حول مفهوم “الجهاد” والتغيير بالقوة واستخدام العنف، وطرق العمل بالإسلام، وأفضل السبل لخدمة ديننا وأمتنا أمة الإسلام، وكان مفهوم “الجهاد” في عرفنا لا يعني سوى القتال، وأنه السبيل للتغيير وتحقيق حلمنا الإسلامي.
ولا أنسى –في بداية لقاءاتي مع أخ من كرام الإخوان الذين ابتلوا في سبيل الله وقضى في السجن سنوات طويلة، وبعد اقتناعنا بمنهج الإخوان المسلمين في التغيير السلمي والعمل في الشعب وبين الناس وفق المنهج القرآني: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11) – أن سألته: وماذا عن الجهاد والقتال في سبيل الله؟ فكانت إجابته وقتها: إن الله تعالى يقرر في كتابه العزيز: (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253).
وكان هؤلاء الرجال يترفقون بنا، ولا يصدموننا برفض أفكارنا المتحمسة، ويأخذون بسُنة التدرج معنا.
وكانت لنا مع شيوخنا الكرام –الذين تتلمذنا على كتبهم ومحاضراتهم ودروسهم خلال العقد المبارك، عقد السبعينيات من القرن الميلادي العشرين– كانت لنا حوارات ومناقشات حول المفاهيم والمصطلحات، والفهم الصحيح للإسلام، كما كانت لنا جولات حول أساليب الحركة والدعوة والعمل للإسلام، مثل: الإمام الشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد نجيب المطيعي (يرحمهما الله)، والشيخ د. يوسف القرضاوي حفظه الله.
وكانت مناطق الحوار الساخن في صفوف الشباب خلال تلك الفترة –ولا تزال فيما أظن حتى الآن- تدور حول مسألتين:
الأولى: الفهم الصحيح للإسلام: والموقف من قضايا عقدية أو فقهية شغلت المسلمين طوال تاريخهم من فجر الإسلام، ولا تزال تمزق وحدة المسلمين، وتسبب ذلك في اتجاه عدد من الشباب إلى الفهم السلفي الضيق وليس بمعناه الواسع، أو إلى التكفير والتبديع والتفسيق للمسلمين.
والثانية: منهج التغيير: وما يتعلق به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخروج على الحاكم الظالم أو الكافر، وحروب العصابات والانقلابات العسكرية، وتسبب ذلك في نزوع عدد من الشباب إلى استخدام القوة والعنف باسم الجهاد في سبيل الله.
وقد أثمرت مناقشاتنا مع شيوخنا في إصدار عدد لا بأس به من الكتب والدراسات والبحوث أو الحوارات المسجلة لشرح أصول الفهم العشرين التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا، كأول أركان بيعة الإخوان لجماعتهم في ركن الفهم، مثل: “دستور الوحدة الثقافية”، للشيخ الغزالي، وشرائط للشيخ القرضاوي، ومحاضرات للشيخ المطيعي.. إلخ.
تحية واجبة
وهنا نحن اليوم وبعد جهد استغرق ست سنوات من د. القرضاوي أمام سفر جليل، وكتاب ضخم طال انتظاره حول “فقه الجهاد: دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسُّنة”، صدر عن مكتبة “وهبة” بالعاصمة المصرية القاهرة هذا العام، وأهداني أستاذنا نسخة منه، مع تحية ووصف لا أستحقه.
فتحية واجبة لشيخنا الذي لم تقعده السنون ولا الأمراض، ولم تنسه الهموم ولا الأحداث طلباً طلبناه منذ عقود وسنوات؛ لبيان وجه الحق في قضايا شائكة شغلت الشباب ولا تزال، وأزهقت أرواحاً، وسالت بسبب سوء الفهم فيها أنهار من الدماء الطاهرة الزكية التي كنا ندخرها لمعارك الإسلام الكبرى، وشكر الله له هذا الجهد الرائع، وهذا التمحيص الدقيق لمسائل تتعلق بالفقه والحديث والتفسير.
وفي ظني أن الشيخ لا ينتظر من قراء ذلك السفر الجليل مجرد الإشادة به والتقريظ له، لذلك عكفت عليه بجزأيه، أقرأ بتمعن وأقارن بين ما سطره الشيخ وما تحتاجه الحركة الإسلامية اليوم وما تحتاجه أمة الإسلام من شيوخها ومفكريها، فكان هذا التعقيب الذي يريد من الشيخ مراعاة ما استجد من قضايا تحتاج إلى مزيد من البحث في الطبعات القادمة إن شاء الله.
ملاحظات أولية
أولاً: الكتاب ضخم، وهو موجه إلى طائفة واسعة من المهمومين والباحثين يصل عددها إلى عشر طوائف؛ وبالتالي، فإن استفادة كل طائفة منه ستكون بحدود، وتحتاج إلى استكمال الجهد الخاص بها في بحوث مستقلة، ولعل تلاميذ الشيخ الذين لهم معه لقاء سنوي يستكملون ذلك الجهد العظيم في دراسات متصلة يشرف عليها.
ثانياً: الشباب بالذات، هم من كانوا سبباً رئيساً في إخراج ذلك الجهد العظيم، يحتاجون إلى طبعة مختصرة تجيب عن أهم الأسئلة دون استفاضة في بحوث اللغة والفقه والحديث والأصول، ويمكن لمن يريد العودة إلى تأصيل المسائل الرجوع إلى الكتاب الضخم، ويا ليت الشيخ يكلف أحد تلاميذه من مكتبه العلمي بتحرير كتيب صغير –مثل رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية “قاعدة قتال الكفار”– يقرر عشر قواعد في فقه الجهاد مثلاً.
ثالثاً: القانونيون والسياسيون والعسكريون يحتاجون إلى إفراد كتاب مستقل حول “قانون الحرب في الإسلام”، فإذا كان الإمام محمد بن الحسن الشيباني كان له السبق في إقرار قواعد فقهية سبقت العصور في كتابه “السر الكبير”، فقد توقف المسلمون عن الاجتهاد في ذلك الباب رغم شدة الحاجة إليه، وهنا أقترح أن يعقد الشيخ ندوة للاجتهاد الجماعي يحضرها ممثلون لتلك الطوائف تسترجع التاريخ الحديث منذ حروب الدولة العثمانية، ثم حروب الاستقلال، ثم النزاعات البينية على الحدود المصطنعة الآن، والحروب الأهلية التي شغلت المسلمين طوال القرن الماضي، لتضع في نهاية المطاف دستوراً للحرب في الإسلام.
رابعاً: استغرقت بعض البحوث المهمة أجزاء ضخمة من الكتاب، مثل: النسخ في القرآن، وآية السيف، وحديث “أُمرت أن أقاتل الناس”، وغيرها مما يصرف القارئ غير المتخصص عن جوهر الكتاب، وأقترح أن توضع في ملاحق بنهاية الكتاب، مع وضع خلاصتها فقط في صلبه.
خامساً: يحتاج الموضوع إلى فصل مهم يتعلق بالجهاد والقتال والحرب، وبيان كيف تعامل معه المسلمون خلال عصور الإسلام المختلفة منذ فجر الدعوة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحالي، يجمع شتات ما تفرق في ثنايا الفصول المختلفة.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تأصيل قاعدة مهمة جداً؛ وهي أن اجتهادات الفقهاء كانت مرتبطة بعصورهم وظروف الحياة وقت الاجتهاد، وتقرير قاعدة لا تقل أهمية، وهي أن النظم والوسائل والطرق التي اتبعها المسلمون في ظروف تاريخية لا تلزم بقية المسلمين على مدار التاريخ، وهنا يقول الإمام حسن البنا في رسالته المهمة “المؤتمر الخامس” مقرراً عدة أمور أساسية:
1- نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة.
2- يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه.
3- يعتقد الإخوان أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزيئات هذه الحياة وخصوصاً في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها.
ولهذا كله، كانت طبيعة الإسلام تساير العصور والأمم، وتتسع لكل الأغراض والمطالب، ولهذا أيضاً كان الإسلام لا يأبى أبداً الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية وأصوله العامة.
سادساً: كان بيان المصطلحات والفروق المهمة بينها في صدر الكتاب ضرورة، وهو ما تفتقده البحوث الشرعية الآن، كما كان مهماً تأكيد أن الجهاد لا يتعلق في جانب الحرب والقتال بفقه السياسة الشرعية الذي يتسم بالرحابة والمرونة والقابلية والتطور، لأنه يقوم أساساً على فقه المقاصد والمصالح، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وأن هذه الألوان من الفقه بها مجال واسع للاجتهاد الإنشائي والاجتهاد الانتقائي، واختلاف التنوع، وتعدد الأنظار والرؤى، دون نكير من فريق على فريق، ما دام يحترم الثوابت، ويرعى الأصول الشرعية والضوابط المرعية.
سابعاً: تطرق الشيخ في الكتاب إلى قضية خطيرة ومهمة، وهي علاقة المسلمين بغيرهم من أمم العالم وشعوبه، وهل تقوم على السلم والموادعة أم على الحروب المستمرة المتواصلة؟
كما تطرق إلى ما يترتب على ذلك من الالتزام بالمواثيق الدولية مثل ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات المرعية دولياً مثل معاهدات جنيف الأربع، وعلاقتنا بالهندوس والبوذيين والآسيويين الذين يدينون بـ”الشنتو”، وفرق بينهم وبين الصهاينة اليهود الذين احتلوا فلسطين وشردوا أهلها، وأن سبب حربنا وجهادنا ضد الصهاينة ليس عرقهم السامي ولا ديانتهم اليهودية، ولكن احتلالهم لأرضنا.
أفكار سيد قطب
وفند الشيخ حجج الذين يقولون بالجهاد الهجومي في الباب الثالث، وهو أوسع أبواب الكتاب؛ حيث يشمل 12 فصلاً، وهو ما يعد كتاباً مستقلاً.
وتطرق إلى ست ملاحظات على ما ذكره الشهيد سيد قطب، في كتابه “في ظلال القرآن”، عند تفسيره لسورة “الأنفال”، وتحمسه الشديد لفكرة الجهاد الهجومي المتواصل.
وهذه مسألة أخرى ضمن عدة قضايا جاءت في كتابات الشهيد سيد قطب تحتاج إلى دراستها ووضعها في مكانها الصحيح، وقد تصدى الشيخ لبعضها رغم غضب البعض منه، ومنها مثلاً: قضية طرح برامج تفصيلية لجزئيات الحياة ومناحيها، والمشاركة في الانتخابات العامة، والموقف من الحكومات الحالية والوطنية والمواطنة.. وفي ظني أنه لو كان الشهيد بيننا وجرت تلك الحوارات والمناقشات لتلك القضايا لتغيرت وجهة نظره فيها، أو لصحح بعض المفاهيم الخاطئة حولها.
وهنا أقترح على الشيخ القرضاوي أن يجمع شتات ما عقب به على بعض ما فهم خطأ عن الشهيد سيد قطب، أو ملاحظاته هو على بعض أفكار الشهيد في كتاب، مثلما فعل المستشار سالم البهنساوي وغيره، حتى يتسنى لقراء كتابات الشهيد من الإخوان وغيرهم معرفة مختلف الآراء والتعقيبات، ويمكنهم من الاستفادة من كتاباته بعيداً عن الغلو الذي دفع بعض الشباب إلى سلوك مسالك وعرة، ورداً على الاتهامات المبالغ فيها بشأن دور الشهيد في هذه الاتجاهات والسلوكيات الخاطئة.
الجهاد المدني
وقد كان لافتاً أن اندفاع الشهيد قطب في تأييد بعض وجهات نظره جعله يخالف الإمام الشهيد حسن البنا في مسائل معدودة، منها على سبيل المثال: الجهاد، والمشاركة في الانتخابات، والتقدم ببرامج عملية لعلاج مشكلات واقعية.
وكان من الفوائد المهمة للشباب شرح فكرة “الجهاد المدني”، وأن مفهوم الجهاد في الإسلام واسع وشامل ولا يقتصر على “القتال” كما كنا نعتقد، ورغم أن البعض عقب على ذلك –ومنهم د. محمد عباس في مجلة “المختار الإسلامي”– وبيَّن أن “الحكام في بلادنا يغلقون كل منافذ الجهاد المدني، ويضعون العقبات والعراقيل في وجه كل مصلح، ويزورون كل انتخابات طلابية ونقابية وبرلمانية، بل يمنعون إنشاء الجمعيات الأهلية”، إلا أن ذلك لا ينفي أهمية تحرير المصطلحات وبيان اتساع مفهوم الجهاد، ولعل لنا في نشاط المسلمين في الغرب والشرق ما يؤيد أهمية فهم شمول الجهاد لكل نشاط بشري يقصد به المسلم وجه الله ونشر الإسلام ونصرة المسلمين، بل ودفع الظلم عن المستضعفين في الأرض من أي جنس ودين.
______________________________________________________________
العدد (1915)، 4 مضان 1431هـ/ 14 أغسطس 2010م، ص12-14.