شهدت الدولة الإسلامية تحت راية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتوحات متعددة نتج عنها توسعات كبيرة في رقعة الدولة، وقد أدخل عمر الدواوين في الدولة لإدارتها وتنظيم أمورها بالشكل الأمثل في عام 15هـ، وبعد فترة وجيزة من إدخال الدواوين اشتكى أبو موسى الأشعري للخليفة من أن الخطابات والمراسلات تأتي مؤرخة بالأشهر دون السنوات فلا يدري هل المقصود شهر شعبان لهذا العام أم العام الذي يليه، وأشار الأشعري على الخليفة أن يضع للمسلمين تأريخاً خاصاً بهم على نهج الأمم المجاورة كالفرس والروم.
في تلك اللحظة بدأت قصة المسلمين مع تأريخ حضارتهم وتدوينها بالشهور والسنين، حيث أدرك الخليفة عمر بن الخطاب بأن حضارة الإسلام يجدر بها أن تحوز تأريخها الخاص بها الذي يعكس هويتها وخصوصيتها، واستشار في ذلك كبار الصحابة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاتفقوا جميعاً على ضرورة وضع تقويم إسلامي جديد، بينما تباينت وجهات النظر بشأن ماهية هذا التقويم وكيفية احتسابه.
السنة الأولى في التقويم الإسلامي
بينما اتفق المسلمون على أهمية التأريخ لدولتهم إلا أنهم اختلفوا بشأن اختيار التقويم الأنسب لتلك المهمة، فقال بعضهم أرخوا بتأريخ الروم أو الفُرس، بينما أشار آخرون بأهمية اختيار تأريخ إسلامي ينطلق من حدث يعبر عن الإسلام وليس مستورداً من خارجه.
وقادت تلك الرؤية إلى التباحث بشأن الحدث الإسلامي الذي ينطلق منه هذا التقويم بحيث يكون خير معبّر عن الإسلام وقصته وتاريخه، فثارت وجهات نظر مختلفة بشأن ذلك، إذ رأى البعض اختيار عام مولد النبي صلى الله عليه أو عام وفاته أو عام البعثة، بينما ثارت وجهة نظر أخرى ترى اختيار الهجرة النبوية الشريفة لتكون بداية للتقويم الإسلامي.
لماذا الهجرة؟
وجاء اختيار الهجرة انطلاقاً من اتفاق عام فيما بين المسلمين على التاريخ المُحدد الذي حدثت فيه الهجرة، ومن ناحية ثانية كان اختيار الهجرة باعتبارها حدثاً إسلامياً فريداً ومحطة رئيسة في نجاح دعوة الإسلام بخلاف الرؤى التي تبنت الأخذ بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو وفاته كنقطة تأريخية، إذ تتمحور تلك الرؤى حول شخص النبي صلى الله عليه وسلم بينما تتموضع الهجرة حول حدث إسلامي غير مشخصن، فهي لحظة تاريخية «فرقت بين الحق والباطل»، على حد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي اللحظة التي غادر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أرض الشرك، وبذلك يجدر بها أن تكون نقطة انطلاق تأريخ إسلامي يفرق بين الحق –ممثلاً في دعوة الإسلام وانتصارها– والباطل –ممثلاً في العصر الجاهلي ما قبل الإسلامي- وهي الحدث الذي يعبر عن الإسلام كدين وحضارة وليس كدعوة منحصرة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
أسماء الشهور
وعلى الرغم من اختيار المسلمين للهجرة كحدث إسلامي خالص كنقطة انطلاق للتقويم الإسلامي الجديد، فإن الأشهر الهجرية هي أشهر عربية بالأساس ورثها المسلمون عن العرب، إذ اتفق العرب قبل الإسلام بمائتي سنة على أسماء الشهور العربية كما نعرفها الآن، بينما لم يكن للعرب تقويم للسنوات حيث درجوا على استخدام التقويم بالشهور فقط، أما الأعوام فكان يتم التقويم بأهم الأحداث التي وقعت خلالها، فيقال: «عام الفيل»، و«عام حرب الفجار»، و«عام انهيار سد مأرب».. وغيرها.
ولما كان العرب يعتمدون على التقويم بالأشهر القمرية، كانت القبائل تختلف فيما بينها في أسماء الشهور وعدتها بحسب كل قبيلة، مما أدى إلى اختلاف وتنازع بشأن ترتيب ميقات الحج وتنظيم حركة التجارة، وقد اجتمع سادة العرب عام 412م للتباحث بشأن تقويم عربي موحد لأسماء الشهور وعدتها، ليخرج للنور تقويم عربي للشهور القمرية كما نعرفها الآن بالشهور الهجرية.
وقد تفرع عن النقاش بشأن اختيار السنة الأولى للتقويم الإسلامي الجديد نقاش آخر بشأن الأشهر التي يتم العمل بها في هذا التقويم الإسلامي، وأي هذه الشهور تكون بداية العام، فبعض الناس قد ارتأوا في رمضان شهراً إسلامياً مميزاً لكي يبتدئ به العام الإسلامي، بينما اختار آخرون شعبان، لكن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد اختار شهر المُحرم بعد مشورة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو الشهر الذي ابتدأت فيه السنة لدى العرب قبل الإسلام، كما أنه أيضاً من الأشهر الحُرُم وهو الشهر الذي ينصرف فيه الناس من الحج، وهو الشهر الذي اعتزم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة، لكن الهجرة نفسها قد حدثت في ربيع الأول من العام الرابع عشر للبعثة.
وبذلك لم يرفض المسلمون ميراث العصر الجاهلي كُلياً، بل أخذوا منه ثم أضافوا إليه خصوصية الإسلام مُمثلة في الحدث الإسلامي الفريد الذي ميز الحق عن الباطل وأظهر دعوة الإسلام بخروجها من دار الشرك ألا وهو الهجرة النبوية، وهو منهج إسلامي أصيل في الانفتاح على الحضارات السابقة والأخذ منها وتوظيفها بما يخدم الإسلام وإضافة الاجتهاد الإسلامي النابع من جوهر الإسلام وخصوصيته ومُعبراً عن هويته الخاصة المتميزة.
وفي 20 جمادى الآخرة 17هـ، انطلق التقويم الإسلامي للمرة الأولى في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فتخلى المسلمون عن تسمية الأعوام بأسماء الأحداث التي وقعت فيها كـ«عام الرمادة»، و«عام الحزن» وغيرهما، وأصبح لهم تاريخ مُرقم بالسنوات تستوعب ما آلت إليه الدولة الإسلامية من اتساع، وما وصل إليه نظامها الإداري من تعقيد، ويُعبر عن روح الإسلام الذي انتصر بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة للمدينة.
وبذلك أصبح التقويم الهجري هو المُعبّر عن الحضارة الإسلامية وبه تؤرخ المكاتبات والخطابات والرسائل، وعلى أساسه يتم الاستناد إلى الأحكام الشرعية كعدة الطلاق وموعد إخراج الزكاة، بالإضافة إلى تحديد مواقيت الحج وصوم رمضان والأعياد الإسلامية، وأصبح المسلمون يحتفلون بالهجرة النبوية في الأول من محرم من كل عام هجري على الرغم من أنها حدثت في ربيع الأول؛ وذلك احتفالاً بالهجرة كمحطة إسلامية مهمة أطلقت دعوة الإسلام وقوّت شوكتها، واحتفالاً ببدء التقويم الإسلامي الذي انطلق ليعبر عن حضارة المسلمين ويؤرخ قصتهم تأريخاً خاصاً بهم.