كهديها منذ أن تأسست دار المخطوطات بإسطنبول، تحمل لنا المفاجآت السارة والدورات المميزة، والزائرين الأعلام.
وقد فق الله أ.د. فيصل الحفيان، المدير التنفيذي للدار، إلى دعوة شيخ العربية رائد اللسانيات في العالم العربي الفقيه اللغوي الناقد الكبير الأديب الشاعر أ.د. سعد عبدالعزيز مصلوح لزيارة علمية بازخة، اشتملت على 5 محاضرات متتاليات، أفاض فيها الزائر على الحاضرين والمتابعين عبر الشبكة العنكبوتية من علمه ما أفاض، وفتح لهم من أبواب الفهم والإدراك ما فتح، حتى تمنوا ألا تنتهى تلك الساعات وألا تنقضي الأيام.
في مدرسة السلطان أحمد بجوار المسجد الكبير الذي يحمل اسمه، وعلى بعد أمتار قليلة من جامع آيا صوفيا الشهير، كان اللقاء الأول بشيخ العربية، وقد كنت ممن حظي بهذه السانحة الكبيرة وحضرت تلك المحاضرات.
فماذا أقول في بضع سطور؟ وكيف تسعفني التعبيرات؟ فماذا يمكنها النواعير أن تنقل من ماء البحر ولو دارت ألف عام، وكيف يمكنني أنقل لكم سكينة تلك المجالس التي تنزلت عليها الرحمات.
وإذا كانت الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، فماذا فعلت الملائكة لمن جاء من بلد إلى بلد يحمل العلم ويبذله بكل تراحم وسخاء؟! لقد رأيت من شيخنا العلَّامة الجليل سعد مصلوح عطاء الكريم الذي لا يخشى الفقر، وتواضع العالم الكبير الذي يغرف من بحر هو فيه الربان الماهر والسابح القدير، ورأيت كيف تفاعل الحاضرون بالسؤال والشيخ بالجواب، فكانت مثاقفات ماتعة على بعد المسافة العلمية الواضحة بين السائلين والمجيب.
جاء الشيخ يحمل إلينا بعض أفكاره التي خلص إليها في مسيرته العلمية ومشروعه اللساني الرائد الذي عمل عليه في مسيرته العلمية الطويلة الممتدة لأكثر من نصف قرن من الزمان، فلم تنته المحاضرات إلا وقد آمنا بها وصدقناه في كل ما يقول.
في نفحة من نفحات شهر الله المحرم، وقدر من أقدار الله العزيز الحكيم، جاءنا الشيخ العاشق للسان العربي الذي خدمه طوال مسيرة العمر العامر بنقل العلم وخدمته، مع الإحاطة بكل فن من فنون علوم اللغة واللسان، وقد صادف وجوده في تلك الرحلة العلمية لدار المخطوطات يوم رأس السنة الهجرية الجديدة، فكانت بشرى خير وسعد وصلاح لهذا العام، فالحمد لله الذي قدر هذا التوافق اللطيف.
الشيخ مصلوح من القليل في هذا العصر الذي أحاط بعلوم اللسان وفقه اللغة بمختلف تخصصات الدراسات العربية وعلومها ومعارفها، كما أحاط بين جوانحه بالجانب الإنساني النبيل السامي الذي ميزه بين العلماء ورفع قدره بين طلابه ومريديه.
نحن لا نترجم للشيخ من الأوراق والقراطيس، بل نحكي عن عالم موسوعي عايشناه في تلك الأيام وما زلنا نعايشه، يحبب العلم إلى طلابه ويحثهم على التعمق في دراسة اللسان العربي وخدمته، وهو في ذلك أنموذج للجد والعمل في هذا العمر المبارك، فتقوى به الهمم وتنشط بما تراه واقعاً حياً وفي إحاطة الشيخ بمختلف تخصصات اللسان العربي وما يتعالق باللسانيات من علوم وفنون يحيط به الشيخ من جميع الجهات.
استجاب الشيخ المبارك مصلوح لدعوة خادم التراث العربي العالم المحقق د. فيصل الحفيان، وازدحم المحبون للعلم والتراث على تلك المحاضرات فالتحفت بدثار من النفع والفتح والبركات، فكانت عناوين المحاضرات التي نذكرها باختصار وترتيب التي عقدت من اليوم السابع عشر إلى الحادي والعشرين كالتالي:
– اللسانيات وعلوم التحقيق.
– التوثيق وتحقيق النسبة.
– الأسلوبية الإحصائية وتطبيقاتها.
– الأسلوبيات التعاقبية وصنعة التحقيق.
– لغة الدرس اللساني في التراث.
عناوين وموضوعات حلق فيها الشيخ بنا ما بين الواقع والمأمول من خدمة التراث العربي، بوصف علوم المخطوط من علوم اللسانيات، وفتح شهية الباحثين إلى الإقبال على البحث في هذه الكنوز العربية العظيمة، وجعلنا نوقن أنه يمكن لعلوم المخطوط أن تعطي الكثير والكثير من الدراسات، بداية من لغة المخطوط، ونقد المخطوط، ودراسة أسلوب الكاتب، وتاريخ المخطوط، وغيرها من الدراسات التي يمكن أن تفتح آفاقاً رحبة على علوم المخطوط للدارسين بلا حدود.
وحين أفاض علينا شيخنا المبارك من علومه المتكاملة والمتشابكة بكل مهارة وعطاء جعلنا نوقن أن العلم لا يناله إلا رفيع الهمة، ولا يتربع على عرشه إلا من بذل له سواد الليل وبياض النهار، ومن نشط في طلبه في العسر كما ألف اليسر.
ولقد أيقنت بعد حضور هذه الدورة المكثفة، أن التعليم لا يكون بكثرة المعلومات، وأن طلب العلم ليس بجمع القدر الممكن من المعلومات، إنما طلب العلم الحقيقي يكون من خلال العارف بذلك العلم الذي تمرس بمسائله وعرف كيف طبخت تلك المسائل حتى وصل إلى نتيجته
وأظن أن د. مصلوح من هؤلاء العلماء الذين دخلوا في مجال علم اللسانيات ووصلوا إلى الإنجاز فيه بعد تمهيد طويل وإتقان عظيم لعلوم العربية الآلية من النحو والصرف والبلاغة والبيان مع المداومة على المطالعة والنظر في جديد كل مجال، وكما يقول شيخنا طالب العلم وباذله لا يفترقان.
وإن الأستاذ الحقيقي هو الذي يعلم مريديه كيف يهتمون بآليات العلوم المختلفة حتى يصلوا إليها بأنفسهم ولا يكونوا كالذي يصل إلى مجال العلم وهو مغمض العينين أو مسوق.
فالسائق الذي يعرف الطريق لا يصعب عليه المسير، والذائق لحلاوة العلم لا يستريح إلا إذا أكل منه وشبع.
بارك الله في عمر شيخنا أ.د. عبدالعزيز مصلوح، وبارك في كل من يهدي الناس إلى معرفة مسالك ودروب الوصول إلى مسائل العلوم.