نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر التأمل والاعتبار، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها، من بداوة وحضارة، وهمجية ومدنية، وقوة وضعف، وصعود وهبوط، وغلبة وانغلاب، ونحو هذا من الصفات المتقابلة، والشؤون المختلفة، فحدا بهمته النظر بعين البصيرة إلى طلب النظر بعين البصر، والسير في الأرض لمشاهدة آثار العالمين، وتطبيق ما يرى على ما علم، فضرب في الأرض شرقاً وغربًا، وخالط الأمم عجمًا وعربًا، واكتنه الأخلاق، واختبر العادات، وشاهد سير العلوم والفنون، ووقف على أمهات الصنائع والأعمال، وسبر قوى العقول والأفكار، ثم شرع في المقابلة والتنظير، فتجلى له أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم واحدة، وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك، والتفاوت في الاستعداد، وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات، ويخرج من عداد الإنسان، ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور عارضة وظروف خارجية.
وأعمل فكره في معرفة مناشئ هذه العوارض، وعلل هاته الطوارئ، وارتقى في الأسباب الكثيرة، وتبصر في تأثيرها، فعرف كيف يمكن اتقاء العوارض المضرة، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم فأخرتها، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي، والقوى القدسية التي منحها الله للإنسان.
ثم رجع هذا العاقل إلى وطنه وقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وصار من أطباء النفوس القادرين على مداواة أمراض أمته، وعجب لإغفال الجماهير من قومه هذا النظر وهذه السياحة، حتى كأنهم عميان، وصار يردد في نفسه هذه النصوص: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} (ق: 6) {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (الأعراف: 184)، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، ثم وجه عنايته لتنبيه قومه على ما استفاد في سياحته؛ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113).
ولما أن جاء البشير القوم للسلام عليه سألوه عن رحلته من حيث سهولة السفر ومشقته وما كان طعامه وشرابه فيه، وعن منتزهات البلاد التي زارها، فعذلهم بلطف على هذه الأسئلة، واعتذر لهم عن نسيانه لهذه الأمور، وطفق يحدثهم عن معارف البلاد لا عن معازفها، وعن مصانعها لا عن مراقصها، وأطال في الكلام عن الأمم المتمدنة وعما رأى فيها من موارد الراحة السائغة وبرود النعمة السابغة حتى أدهشهم، وكان يتكلم عن انفعال وتأثر، ويشوب كلامه بالتأوه والتحسر، فأثرت حالته في نفوسهم، وحركت منها كوامن الغيرة، وأحب فريق منهم أن يبحث معه في سعادة الأمم وشقائها، وشدتها ورخائها، وهبوطها وارتقائها.
فاعترضه آخرون قائلين: إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال، ويزعج الخاطر، وهو عبث لا يفيد شيئًا، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم، ولا لأعمالهم أثر في منافعهم، بل ليس لهم إرادة أيضًا، بل هم في الحقيقة كالريش في الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به، ولا إرادة ولا اختيار، نستغفر الله، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة.
ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين «سُني في الظاهر جَبري في الباطن»، فأجابهم أولئك قائلين: إنكم تؤمنون بلفظ الاختيار دون معناه وكأنكم ترون أن حركة اللسان بلفظ الاختيار هي الفصل الذي يخرجكم من عداد طائفة الجبرية الذين اتفق أساطين علماء الملة على فسوقهم من الاعتقاد الحق، ونبذهم بلقب الابتداع في الدين.
أما علمتم أن الألفاظ لا تدخل في ماهية العقائد وحقيقة المذاهب وأن الخلاف في إطلاق اللفظ على معنى متفق عليه يرجع إلى الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.
أتزعمون أنه لا واسطة بين الجبر والقدر، وأن الذين يسمون أهل السنة هم جبرية في الحقيقة، لكنهم لما عجزوا عن الجواب على ما يستلزمه هذا المذهب من تخطئة تشريع الشرائع وإنزال الكتب تستروا بلفظ الكسب والاختيار؛ {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11)، حاشاهم حاشاهم، ونستغفر الله من هذا الضلال البعيد.
فأجابهم السائح العاقل: على رسلكم، فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية، ولكن عموم الجهل جعلهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143)، وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية.
كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر ويقول: «هو بيدنا إيه!» وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا ويقول: «شو طالع باليد!»، وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف: {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 58).
كلمة حق أريد بها باطل، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل، أرأيت إن ألمت ملمة بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب، بل ويتعدون الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها الشرع وينبذها العقل، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين، والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح، ويستنفرون أولئك بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر، ويستنبئون عن حقيقة الأمور بخطوط الرمل أو الطرق بالحصى وحبوب الفول، ويتعرفونها من الدجاجلة والعرافين.
فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها وتباينها، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط، فهم جبرية بإزاء المصالح العامة، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة.
___________________
من كتاب مجلة المنار.