في فترات البناء والنهوض الحضاري توضع شروط مشددة، أهمها حسن توظيف أفراد المجتمع كل في مكانه، الوظيفة التي يستطيع فيها أن يبدع ويخرج أفضل ما لديه ليستقيم وتكتمل الصورة، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «إذا وُسِّدَ الأَمر لغير أهله فانتظروا الساعة»، فلن يتم بناء أو يستقيم إذا كان أحدهم يبني والآخر يهدم من ناحية أخرى.
وقد مرت الأمة الإسلامية بغفوة طويلة استمرت لأكثر من قرنين من الزمان، لتستفيق على واقع مؤلم وتغريب فكري واختلاط عقيدي وضياع هوية ما زالت تعاني منه رغم محاولات الإصلاح الحثيثة التي بدأت منذ فجر الصحوة الإسلامية في مطلع القرن الماضي، وخرجت الأمة من كبوتها محملة بمشكلات حضارية ليست نابعة منها، وإنما خرجت من مشكاة غير مشكاتنا، وأرض غير أرضنا، وتاريخ وهوية لا ننتمي إليهما.
وانتقلت مشكلات الغرب المبررة لبلاد العرب بغير سبب أو جريرة سوى التقليد والتبعية العمياء، منها إشكالية المرأة ودورها وعملها ومكانتها وحقوقها في الوقت الذي لم تكن المرأة العربية والمسلمة تعاني فيه مشكلة دينية من الأساس، وإن كانت هناك بعض المشكلات الموروثة نتيجة تزييف المفاهيم وعدم فهم النصوص بشكل صحيح، فحرمت المرأة من التعليم وحرمتها بعض المجتمعات من الميراث.
وفي خضم الخروج عن تلك الموروثات، تعرضت المرأة لنوع آخر من هضم الحقوق والظلم المضاعف، وذلك بانتشار دعاوى خروجها من بيت زوجها ومناطحته في سوق العمل ومساواته في نوعية الأعمال الموكولة إليها مهما كانت نوعيتها، بغض الطرف عن صلاحية المرأة للقيام بها، أو ما يترتب على تلك الأعمال من فساد وتقصير في مهمتها الأساسية ودورها الحقيقي في مهمة إعادة بناء تلك الأمة.
وتثبت التجربة أن عمل المرأة خارج بيتها قد أضاف إليها أعباء كانت في غنى عنها إذا هي تفرغت ولو لمرحلة محددة، هي مرحلة التربية الأساسية للأبناء وتشكيل وعي جيل نعول عليه لتغيير مستقبل الدولة المسلمة، أضافت إليها مهمة إلى مهمتها، فلا هي استطاعت أن تكون موظفة كاملة التأهيل لسوق العمل، أو تكون أُماً كاملة الأمومة أو زوجة صالحة تقوم بموجبات دورها الكبير.
يكتشف المجتمع بعد تلك السنوات منذ حملت المرأة هذا العبء أنه قد قام بتعطيل طاقة نصف المجتمع، وأنه قد فقد نصف قدرته حين قبل أن يسير بقدمين كلتيهما يمين حين كان الناتج شباباً بلا هوية، بلا ثقافة، بلا علم، بلا مرجعية محددة، بمستقبل واهن لا يبشر بخير قريب إذا استمر على ما هو عليه من إهمال وسوء قراءة للمشهد وسوء إدارة له.
المرأة في ميزان الإسلام
في مطلع الإسلام لم يكن للمرأة مكانة، فحين جاء الإسلام نالت المرأة المسلمة مكانة لم تبلغها غيرها حتى اليوم، رغم الثورات المتعددة والمطالبات المختلفة والقوانين الدولية التي تدعي رعايتها، جاء القرآن ليقرر أن حقوقها مثل الرجل، فقال سبحانه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْـرُوفِ) (البقرة: 228)، وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران: 195).
ويزخر كتاب الله عز وجل بالآيات التي تحض على تكريم المرأة وإلزام وليها؛ والداً أو زوجاً، برعايتها وحفظ حقوقها.
كيف؟ ومتى حدث الخلل؟
يقول أنور الجندي، في كتابه «المرأة المسلمة في وجه التحديات»: إن المفاهيم التي قدمها كتَّاب التغريب (طه حسين، وسلامة موسي) كانت كلها زائفة ومخالفة للحقيقة والفطرة والعلم والإسلام، كانت ائتماراً على المرأة والأسرة والمجتمع كله، في سبيل إخراج المرأة من رسالتها وأمانتها، وشارك في هذا بعض الشعراء الذين جعلوها فقط للمتعة، لقد كان التصوير للمرأة مشوهاً وضالاً ومثيراً للغرائز، ودعوة إلى شر كثير.
فلم تكن هناك خصومة يوماً بين الرجل والمرأة في دول الخلافة الإسلامية مهما اختلف اسم الخليفة، ولم تكن هناك خصومة بينها وبين المجتمع المسلم حتى بداية ضعف دولة الخلافة العثمانية، فحدث انغلاق ثقافي كبير بين دولة الخلافة والعالم الناهض من حولها، ونشأ ما يسمى بـ«الحرملك» وعزل النساء عن المجتمع وحرمانهن من التعليم المخصص للنساء أو لغيرهن وممارسة الحقوق الحياتية فضلاً عن الاندماج الفكري.
وظهر فكر آخر تداخل مع القيم الإسلامية واختلط بها حتى نسي الناس أحكام دينهم في النساء، حتى إذا سقطت الخلافة وبدأ الانفتاح والاستعمار وحركات الاستشراق والبعثات العربية لجامعات أوروبا، حدث الصدام العنيف بين التقاليد التي لا تمت للدين بصلة، مع الانفتاح الأهوج بالغرب الذي خرج من ثورات عنيفة ضد الدين، وضد القيم، وضد الكنيسة التي تألهت على الناس وفرضت عليهم ديناً يخالف الفطرة، حتى انتصر الناس وأزاحوا الكنيسة واللاهوتية، واستطاعت المرأة كذلك أن تثور وتفرض إرادتها في المساواة في الرواتب مع الرجل الذي لا ينفق عليها من الأساس كزوجة أو كأُم.
ومع قدوم الاستعمار العسكري والفكري، وعودة أصحاب الفكر المتغرب، تم نشر أفكار الثورة الفكرية النسوية، التي وإن كانت لها بعض العذر في بلادهم، فهي ليس لها أدنى حق في بلادنا، ففي بلادنا لا تخاصم، ولا تضاد بين الإنسان ودينه على غرار ما تم هناك.
فلم تكن المسلمة في حاجة إلى ثورة على الدين والمجتمع، بل كانت في حاجة لثورة للرجوع إلى الدين لتحصل على حقوقها كاملة، فقد جعل الدين بر الأم والزوجة والابنة والأخت والعناية بهن وحفظ حقوقهن والقيام عليهن سبباً لدخول الجنة وحفظاً من الوقوع في عذاب الله تعالى، فأي مكانة تلك، وأي حاجة للمرأة في أن تتخلى عن مهمتها لتعول نفسها أو تطعم أبناءها؟!
واجب الأنظمة العربية والمؤسسات تجاه المرأة
لقد آن الأوان أن تعيد المرأة حساباتها في ظل حاجة الأمة إلى دورها الحقيقي في بناء جيل يتحمل مسؤوليته، ولن يتأتى هذا الجيل براتب المرأة التي تعين به زوجها، وإنما يتأتى بنهوضها من غفوتها وتخليها عن دورها الأهم في تشكيل الوعي المجتمعي بتربيتها جيلاً قادراً على مواجهة التحديات الكثيرة لنهضة الأمة.
ومن هنا فقد صار واجباً على الأنظمة الحاكمة في بلادنا أن تقوم بحزمة من القوانين المحفزة للأم والزوجة لتتفرغ لمهمتها، خاصة المرأة التي تضطر للعمل لغياب الزوج بالوفاة أو العجز، ولا يتنافى كل ما سبق أن تسند للمرأة أعمال مثل التدريس أو تطبيب النساء أو أي وظيفة لا تعطل طاقاتها كأُم وزوجة أو تتعارض مع كونها زوجة ومربية.
لقد آن الأوان أن تقف الأمة موقفاً حكيماً لرد اعتبار المرأة كونها أُماً وزوجة ومربية ومصلحة بعودتها لمملكتها وإسناد العمل الأهم المناسب لها.