إن المتتبع لمسيرة التاريخ يخلص إلى نتيجة مهمة تتعلق ببقاء الأمم وازدهار حضارتها، وهي وجود ارتباط وثيق بين الأخلاق ونهضة الأمم، فبمكارم الأخلاق تنهض الأمم، وبانهيارها تسقط الأمم وتندثر حضارتها، إن منظومة الأخلاق هي صمام الأمان الناظم للعلاقة بين الفرد وربه وبينه وبين الآخرين، وإن انهيارها إيذان بسقوط الأمم والحضارات، وكم كان أمير الشعراء أحمد شوقي موفقا حين اختصر ذلك ببيت شعر أصبح حكمة شائعة حين قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لقد دلَّت التجربات الإنسانية، والأحداث التاريخية، أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة، ومتناسب معه، فبين القوى المعنوية والأخلاق تناسب طردي دائمًا، صعودا أو هبوطا، فإذا انتشر في المجتمع الروح الأخلاقية العالية بين أفراده، كالتضحية في سبيل خدمة الأمة ورفعتها، وسيادة روح الإخاء والتعاون، وتحقيق المساواة والعدالة الشاملة، والمحافظة على العهود والمواثيق، فإنها ستؤدي حتما إلى تقدم الأمة بأسرها، وسنجد أن أفرادها سيقبلون على الاختراع والإبداع في كافات مناحي الحياة، وسيجعلهم يتفاخرون بتقدم أمتهم وتبؤها مراكز رفيعة بين الأمم الأخرى، ثم إن التقدم يكون نتيجة سيادة الأمن والاستقرار في المجتمع، ورسوخ الأخلاق الحسنة فيه، ذلك أن الأخلاق الحسنة والروح الخيرة والتعاون المثمر من لوازم القيام بالواجبات والأعمال والصناعات كما ينبغي ويجب، فمجتمع انتشر بين حرفييه وعماله وموظفيه مبدأ “من غش فليس منا“، وأن العبد إذا عمل عملا فينبغي أن يتقنه، وما أجمل التوجيه النبوي الذي ورد في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: “من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل” [رواه مسلم]
ولقد حذرنا الحق سبحانه من أسباب هلاك الأمم واندثار حضارتها، وورد في ذلك آيات عديدة، منها: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]، (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأعراف: 100] فالعلاقة وثيقة جدا بين التقوى وهي أساس الأخلاق الفاضلة، وبين هلاك الأمم.
وكذلك فإن الإعراض عن الصلاح والإصلاح، والإقبال على الفساد والإفساد، سبب رئيس لهلاك الأمم حذرنا الله تبارك وتعالى منه حيث قال: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 116، 117]، وقال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
إن المحافظة على أخلاق الأمة هو محافظة على بقائها وتطورها، ونجاة لها من عقوبة الأخذ والإهلاك، وقد يتساءل سائل أليس هناك أمم قد أضاعت أخلاقها دون أن تُصَاب بعقوبة الأخذ هذه، وهنا يأتي الجواب في قول الله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران: 178]، فالسنن الكونيَّة قد تتأَخَّر، لكنَّها لا تَتخَلَّف؛ لذلك حذَّر الله من الاغترار بتأخُّرها فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الأنبياء: 44]، وإن سنن الله لا تتبدل، قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62].
وإننا إذا رمنا النهضة والتقدم لأمتنا لابد أن ننهض أولا بقيمنا الأخلاقية والسلوكية، ولا يتحقق ذلك إلا ببناء أربع مؤسسات في المجتمع بناء سليما يرتكز على منظومة الأخلاق العليا، وهذه المؤسسات هي: التعليم، والإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، والحكم الراشد.
إن مؤسسات التربية والتعليم هي التي تتحمل الدور الأبرز في تفعيل التربية الأخلاقية، وهناك مكملان مهمان لتحقيق دور مؤسسات التربية والتعليم على الوجه الأمثل، وهما: مؤسسات الإعلام بأشكاله المختلفة وهي المكمل الأهم لاستكمال عملية البناء الأخلاقي لأفراد المجتمع، إذ لا يعقل أن يكون الإعلام معول هدم لما تبنيه مؤسسات التربية والتعليم، ولا يخفى على المتابعين ذلك الأثر المدمر الذي أصاب العملية التربوية والتعليمية في مقتل، عبر نشر الإعلام مسرحية (مدرسة المشاغبين) ليس في مصر وحدها، ولكن في عموم الوطن العربي، وقس عليها ذلك السيل الجارف من المواد الإعلامية الرسمية والشعبية والعالمية الموجهة لتدمير الأخلاق الحميدة إما بقصد (غالبا) أو بدون قصد (أحيانا).
والمكمل الآخر هو مؤسسات المجتمع المدني، فهي تشكل بمجموعها بوتقة ضرورية لصهر طاقات أفراد المجتمع للقيام بأدوار تنفيذية مهمة لخدمة ونهضة الدولة، واستثمار طاقات أفراد المجتمع التي لم يتم استيعابها في سلك الدولة، ويتمثل دورها بسد العجز وتكميل النقص الذي يعتري عمل الجهات الرسمية في الدولة.
وفي ظل الحكم الرشيد تزدهر المؤسسات الثلاث (التعليم، الإعلام، مؤسسات المجتمع المدني) فهي الضامن لاستمرارها في أداء أدوارها، بما يمتلكه الحكم من أدوات قوة يستطيع أن يفرضها للصالح العام، وإذا أردنا أن نحكم على رشد حكومة ما فلننظر إلى حال هذه المؤسسات، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فكل إناء بما فيه ينضح، لذلك نجد أن رواد الإصلاح في أي دولة يطالبون دائما بتبني الحكم الراشد في دولهم، ويعملون جاهدين على مستويين في هذا الصدد، الأول تجاه الحكومة والثاني تجاه الشعب، وهنا تبرز حركة التدافع بين مختلف التيارات المؤثرة في المجتمع والدولة، وهذا التدافع لابد منه للوصول إلى مقاربة مرضية ترتكز على منظومة الأخلاق المتفق عليها، لتصل بالأمة إلى بر الأمان.
والله يهدي إلى سواء السبيل