هل نحن في حاجة إلى الرضا النفسي والقلبي في هذه الأيام التي اشتدت فيها الأزمات في مختلف مجالات الحياة لا سيما الاقتصادية، وزادت فيها الخطوب والنائبات؟!
وهل يستطيع المسلم أن يرضى ولا يتسخط على حاله حين يقارن حياته بمن يعيش في هذا الزمان الذي كُشفت فيه عورات البيوت، ورفعت السُّتُر والحجب عنها فاطلع الناس على بعضهم بعضاً عبر وسائل التواصل المتعددة، وتفنن البعض في إظهار نفسه وأسرته وأولاده، بل وطعامه وشرابه ومتنزهاته ومناسباته؟! أم أننا بحاجة لتجديد الإيمان في قلوبنا حتى يحل الرضا محل الشكوى والتسخط؟
إن للإيمان حلاوة في النفوس، وآثاراً في حياة المسلم تجعل منها حياة هانئة يلفها الرضا والسكينة، فقد يكون البعض فقيراً أو مبتلى في جسده أشد البلاء، مَن يراه يظنه أشقى الناس، لكنه في الحقيقة غير ذلك، إذ ينعم بقلب يملؤه الرضا بالله والاطمئنان للطفه، والثقة في رحمته، والحب الكبير له؛ لذا فلا عجب أن يلهج لسانه بالحمد والثناء على الله في كل طرفة عين.
وهذه هي حلاوة الإيمان، التي تذوقها حين رضي بالله رباً فآمن به، وعبده وحده لا شريك له، ورضي بقضائه وقدره، ولم يشكه إلى عباده؛ فانشرح صدره لذلك واتسع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَن رَضِيَ باللَّهِ رَبّاً، وبالإسْلامِ دِيناً، وبِمُحَمَّدٍ رَسولاً» (رواه مسلم).
إن الرضا بالله ليس قولاً يقال باللسان فحسب، بل هو عبادة قلبية وعمل من أعمال القلوب يظهر في حياة المسلم ويؤثر فيها تأثيراً كبيراً، حيث إنه يشمل الرضا به رباً ومعبوداً، وحاكماً ومُشرعاً، كما يشمل الرضا بدينه الخاتم الذي ارتضاه لعباده وشريعته التي أتم بها الشرائع، وهو أيضاً الرضا بنبيه صلى الله عليه وسلم، الذي يظهر في حبه واتباعه، ونشر سُنته والأخذ بحكمه.
فإذا تم هذا الرضا بالله ودينه ورسوله تغيرت المفاهيم الخاطئة، وصلحت البلاد والعباد، فتؤدَّى الحقوق لأهلها برضا ودون بخس أو تطفيف، وذلك على مستوى الأفراد والجماعات، فيقوم كل مسلم بواجبه فيتقن عمله ويخلص فيه، وتقوم الدول بواجبها تجاه شعوبها فتشبع جائعهم وتقضي حاجتهم وتعالج مريضهم وتؤدي حقوقهم.
وحينها تترعرع بذرة الرضا في القلوب، فتسود أخلاق الإسلام العالية، ويعف الناس عن المال الحرام، والنظرة الحرام، راضين بما أحل الله لهم، وينظر العباد لأوامر الله نظرة حب ورضا، فتلبس المرأة حجابها وتستر عورتها وهي سعيدة راضية، لن يأكل المسلم ميراث أخيه أو أخته، بل تكون القسمة كذلك بنفوس راضية كما قسمها الله في كتابه، ولعلنا بذلك ندرك السر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال رَضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة» (رواه أبو داود).
الرضا بقضاء الله وقدره
ومن علامات الرضا بالله تعالى الرضا بقضائه وقدره؛ حلوه ومره وخيره وشره، وهذا مما يحتاجه المسلم في حياته الدنيا كي يستقيم أمره، ويُكتب له أجره، وليس كل ما يراه المرء شراً يكون كذلك، فإن أقدار الله تعالى لا يدرك حكمتها إلا هو سبحانه، وفي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح وما فعل من أمور تكرهها النفس وتراها شراً محضاً دليل على ذلك؛ كخرقه سفينة المساكين في البحر، قال تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (الكهف: 79).
إن منزلة الرضا منزلة عالية وهي فوق منزلة الصبر، ذلك بأن فيه نوعاً من تربية النفس على التسليم لأمر الله والثقة في رحمته وعدله، وحسن الظن به، ومِن ثَم الاطمئنان لقدره، فيرضى الله عن عبده ويرضى العبد عن ربه كما قال تعالى عن عباده المؤمنين: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (البينة: 8).
ومن أعظم مظاهر الرضا، الرضا حين وقوع البلاء، وهذا الرضا لا يمنع من بذل الأسباب المطلوبة التي أمر الله تعالى بها لدفع البلاء وتخفيف شدته، إذ ليس من الحكمة إهمال ذلك بحجة الرضا بالقدر، فالمسلم المؤمن بقدر الله يسعى لتحصيل الخير ويأخذ بأسبابه ويدفع عن نفسه الشر بما منحه الله وهيأ له من أسباب مباحة، فيغير حاله من المرض بالتداوي وطلب الشفاء من الله الشافي، ويدفع شر الجهل بطلب العلم وتحصيله، ويسعى في دفع الفقر عن نفسه بالعمل والمشي في مناكب الأرض طلباً للرزق كما أمره الله، وهكذا في سائر أحواله.
إن الحياة التي تخلو من الرضا حياة تنقصها السكينة والراحة، ويعلوها ران التسخط والتشكي والبعد عن الله، وقد قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن: 11)، قيل: «هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضَى» (تفسير الطبري).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء من جنس العمل فقال: «إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قوماً ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَا، ومَن سخِط فله السُّخطُ» (رواه الترمذي)، وكان من دعائه: «وأسألكَ الرِّضاءَ بالقضاء» (أخرجه النسائي).
ومن علامات رضا العبد ألا يحتج على ربه في قضائه وقدره؛ لضر مسه أو مصيبة أصابته، أو ألم ألَمَّ به، فمن الناس من يتجرأ عند حلول البلاء به وكأنه يستدرك على الله عز وجل فيقول: لماذا أنا يا رب؟ ولماذا هذا البلاء؟ وهل هذا وقته؟ إن عندي ما يكفيني من مشكلات! فتجده ضجراً عبوساً ساخطاً متشكياً وكأنه يحمل الجبال على رأسه! فيضيع عليه أجر الصبر وتفوته منزلة الرضا، ويظل قدر الله فيه ماضياً، فهلا تذكَّر هذا الإنسان أن الله هو العليم الخبير، وأنه سبحانه هو الحكيم، وأنه أعلم بما يصلح لعباده جميعاً؛ فصبر لذلك ورضي؟!
ارض بما قسم الله لك
لقد خلق الله تعالى الناس وفاوت بينهم في الأرزاق، ولم يجعل الدنيا مستقراً دائماً لأحد منهم، بل إنه سبحانه وتعالى جعلها دار ابتلاء وتمحيص، وجعل العاقبة لأهل الصبر والرضا؛ لذا فليس للمسلم أن يتطلع لما في يد غيره طمعاً أو حسداً، لا إلى ماله ووظيفته ومسكنه، ولا إلى زوجه وأولاده ومطعمه وملبسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر أحدكم إلى مَن فُضِّل عليه في المال والخَلْق، فلينظر إلى مَن هو أسفل منه» (رواه البخاري)، وحث على الرضا فقال: «وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» (رواه الترمذي).