الناظر في تاريخ الأمة الإسلامية يدرك إلى أي حد كان للصراع المذهبي العقدي والفقهي، وكذلك العرقي، من أثر سلبي على واقع الأمة وقدرتها على الصمود أمام التحديات الخارجية، فلا شك أن هذا الصراع كان أحد أهم عوامل ضعفها وتراجعها رغم كل المحاولات التي كان يبذلها المصلحون لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر، وهي الثغرة التي استغلها بشكل قميء أعداء الأمة لاختراقها وهدم بنيانها، حتى رأى البعض أنه ما كان من هزيمة للأمة أو إخفاق لها أمام الخارج إلا وسبق ذلك صراع داخلي.
وعلى الرغم من أن الأمة استطاعت، بفضل من الله عز وجل، ثم بفضل جهود المصلحين على مر الحقب، أن تتجاوز الكثير من الخلافات والصراعات المذهبية الفقهية بعد أن ذابت الكثير من الحدود بينهم، فإن الصراعات العقدية والفكرية بل وأحياناً الحركية لم تزل عائقاً أمام تحقيق مفهوم الأمة الواحدة التي وصف الله عز وجل بها أمة الإسلام: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
أثر ممتد
في بداية الدعوة الإسلامية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن تمثل هذه الخلافات والصراعات أدنى مشكلة أو أي عائق أمام انتشار الدعوة الإسلامية؛ ذلك لأنها لم تكن بتلك الحدة، فيما أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المسلمين يومئذ كان كفيلاً بحسم أي خلاف ينشب بينهم، لكن وبطبيعة الحال فقد تبدلت الأوضاع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تنامي الخلاف السياسي زمن الخليفة عثمان بن عفان، ثم الخليفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، ثم اتساع رقعة الإسلام وانتشاره بين من ينتسبون لجنسيات وعرقيات عديدة، ومن ثم ينتمون لبيئات وثقافات متباينة انعكست بشكل أو بآخر على فهم وتأويل مصادر الإسلام الأولى؛ القرآن الكريم والسُّنة النبوية.
وكانت آثار هذه الصراعات والخلافات قد لفتت انتباه كل من تناول أو تطرق للحديث عن التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية وكيفية الخروج من مأزقها الحضاري، في مسعى جاد من هؤلاء لمعالجة تلك الإشكالية التي يبدو أنها لم تنحصر وبكل أسف داخل حدود العالم الإسلامي، فامتد أثرها السلبي إلى خارجه لتكون تحدياً خطيراً أمام الدعوة والجاليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية.
ورقة الأعداء
لا شك أن قدرة الإسلام على أن يحقق، وخلال فترة وجيزة، هذا الانتشار الواسع الذي وصل إلى أوروبا، مثَّل هاجساً كبيراً دفع الغرب بجملته إلى أن يهتم بدراسة الإسلام وتاريخه وحيثيات ونتائج التفاعلات التي جرت بين المسلمين؛ حتى يتسنى له البحث عن الثغرات والشبهات التي يمكن أن تكون معاول لهدم أي محاولات لتوسيع نفوذ الإسلام، فكان ما سمي بـ«الاستشراق والمستشرقين».
وبرزت من هذه الثغرات الصراعات المذهبية بين المسلمين التي حرص المستشرقون على أن يضخموا من حوادثها ليصدروها كواحدة من الأدلة –بحسب ترويجهم- على أن الإسلام لا يحترم التعددية، ولا يمنح المسلمين حرية في الاختيار أو في التعبير عن الأفكار، فما برحوا يلحون على تلك المسألة في جامعاتهم وكتبهم وصحفهم وكل وسائل إعلامهم؛ ما ساهم بشكل كبير في ترسيخ صورة ذهنية مبتورة ومشوهة عن الإسلام وحقيقته.
تحدٍّ دعوي
ربما ولأسباب ظرفية تتعلق بالرهاب من الإسلام أو ما يطلقون عليه «الإسلاموفوبيا» نتيجة تصاعد أعمال العنف من قبل بعض التنظيمات الإسلامية، ركز أغلب المعنيين بمتابعة حركة وأنشطة الدعوة الإسلامية في البلاد غير الإسلامية على دعوة الدعاة المسلمين سواء ممن ينتمون للجاليات المسلمة أو من زائري هذه البلاد من عالمنا الإسلامي إلى ضرورة العمل قولاً وفعلاً على مواجهة ما وجه للإسلام من اتهامات هو منها بريء بكل السبل والطرق الممكنة، معتبرين أن «الإسلاموفوبيا» أحد أهم التحديات التي تواجه الدعوة، وهي رؤية تحمل الكثير من الوجاهة.
غير أن ثمة تحدياً لا يقل خطورة يرتبط بما أشرنا إليه من صراعات مذهبية وفقهية وحركية بين المسلمين، إذ تكمن خطورة هذا التحدي في مفعوله المزدوج، فإذا كانت ظاهرة «الإسلاموفوبيا» حاجزاً يدفع بعض المقبلين على الإسلام للعزوف عن اتخاذ هذه الخطوة، فإن إبراز الصراعات والخلافات المذهبية بين المسلمين يصبح دافعاً لعزوف البعض عن الإسلام قبل دخوله، وحافزاً لدى البعض الآخر للخروج منه بعد الدخول فيه؛ إذ تتكشف لدى بعض الداخلين في الإسلام حديثاً صورة مغايرة عما تصوروها قبل الإقبال عليه، فالإسلام الذي قدم لهم وتعرفوا عليه نظرياً يحمل حزمة من القيم والتوجيهات التي تجعل من حياة البشر جنة أرضية –وهو كذلك بالفعل في حال تم الالتزام به- لكن واقع المسلمين سواء في داخل العالم الإسلامي أو خارجه مغاير، وهو ما يصيب بعض حديثي الإسلام بصدمة شديدة.
الحكمة الدعوية
وإذا كان بالإمكان عبر بذل بعض الجهد تفنيد دعاوى «الإسلاموفوبيا»، إلا أن الصراع المذهبي بين المسلمين يبقى المعضلة الحقيقية التي يمكن أن تواجه الدعاة، كون أن واقع المسلمين في العالم الإسلامي وربما في خارجه أيضاً يعكس إلى أي درجة وصلت حدة هذه الصراعات، وهي الحال التي بات يصعب معها على الدعاة مداراتها أو إنكارها؛ ما يستلزم أن يتحلى هؤلاء الدعاة بالكثير من الحكمة التي يمكن أن تتمثل في الآتي:
– التأكيد على أن جانبا كبيراً من هذه الصراعات هو بفعل فاعل ونتاج فتنة زرعها أعداء الإسلام بقصد تفتيت الأمة وتشرذمها.
– أن هذه الصراعات لا تعبر عن روح الإسلام ومقاصده الحقيقية، وإنما هي انعكاس للكثير من الفهم المغلوط.
– أن الذين يتمادون مع هذه الصراعات لا يعبرون عن حالة إيمانية، وإنما يعبرون إما عن تطرف سلوكي أو دفاع عن مصالح ذاتية وخاصة بهم.
– أن نتائج هذا الصراع محدودة بغض النظر عن محاولات تضخيمها، وأنها لا تقارن على الإطلاق بنتائج الصراع في أوروبا مثلاً خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
– أن التاريخ الإسلامي مليء بالحوادث المشهود لها في العفو والتسامح، وإعطاء الدروس للبشرية كلها في قبول الآخر المختلف معه.
– أن ينأى الداعي مهما كان انتماؤه عن إثارة مثل هذه الخلافات، وألا يتماهى في الإجابة التفصيلية عن التساؤلات حولها حتى ترسخ قدم المسلم الجديد في الإسلام، وتتكون لدية ملكة التمييز بين الأشياء.
– أن تحرص المؤسسات الإسلامية العاملة في مجال الدعوة على الإعداد الجيد للدعاة، فضلاً عن إصدار دليل خاص بكيفية التعامل مع هذه المسألة.
– أن يكون تركيز الدعاة في دعوتهم على الثوابت الإسلامية التي يكون الخلاف حولها محدوداً؛ كالتوحيد وبعث محمد وختم النبوة وأركان الإسلام الخمس.
– أن يتحاشى الداعي توجيه النقد اللاذع أو إصدار الأحكام الشديدة بحق من يختلف معهم مذهبياً أمام المدعوين أو حديثي الإسلام، خاصة أن الكثير منهم ربما لم يلتفت بالأساس لهذا الاختلاف.
– الإلحاح على فكرة أن الاختلاف سُنة الله في خلقه؛ (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، وأن مشكلة البشر أنهم لا يديرون اختلافاتهم بشكل صحيح.