التعليم لا يزود الأطفال بالمعرفة والمهارات الأكاديمية فحسب، بل يصوغ أيضًا شخصياتهم وقيمهم وآفاقهم المستقبلية، ومن هنا تنبثق المشكلات والمعضلات التربوية التي تواجه الأسرة المسلمة وهي تحاول أن تقوم بدورها التربوي تجاه أبنائها، فالنظام التعليمي الحالي في ديار المسلمين بمدارسه ومعاهده وجامعاته نظام مستورد من الغرب، أو بالأحرى نظام مفروض.
والمفارقة أن الغرب قد صنع لنا نظاماً يحقق له مصالحه، ولا يضرب بمصالحنا كمجتمعات مسلمة عرض الحائط فقط، بل إنه مزود بآليات صممت لمحاربة وتدمير دين ولغة وعادات وتقاليد المجتمع الإسلامي، وإعادة صياغته بالكلية، لا كمجتمع غربي أو مشابه للمجتمعات الغربية، ولكن كمجتمع تابع وخادم للمجتمعات الغربية.
يقول محمد قطب، في كتاب «واقعنا المعاصر»: «كانت عيون المراقبة التي وضعها دنلوب تنتقل من المدرس العادي إلى المدرس الممتاز لترى أثره في تطبيق أهداف التغريب فيكافأ على ذلك بإرساله إلى إنجلترا ليزداد صقله، وليُصاغ من جديد صياغة أدق وأشمل، ليستفاد منه على نطاق أخطر، فإذا ما عادوا يوضعون في مراكز التوجيه ليكون أثرهم في الإفساد أشمل وأوسع، حتى إذا صار أحدهم في نهاية المطاف وزيراً للمعارف حطم من مقدسات قومه ما لم يكن يجرؤ دنلوب على فعله».
ودنلوب هذا مبشر إسكتلندي عمل مستشاراً لوزارة المعارف المصرية، وهو الذي أسس النظام التعليمي في مصر، وهو النظام الذي أثر تأثيراً كبيراً على كل أو جل أنظمة التعليم العربية.
واقع التعليم في الدول العربية والإسلامية
أول ما نلاحظه على تعليمنا المعاصر في الدول العربية والإسلامية أن جذوره لا تمتد إلى أصول إسلامية أو حتى قومية، ولكنها تمتد إلى مستعمر مستغل حاقد معاد لدين ولغة وعادات وتقاليد الأمة، وقد كان للنفوذ والاستعمار والثقافة الغربية تأثير مدمر على التعليم في العالم العربي والإسلامي، يمكن إبرازه فيما يلي:
– تهميش الدين وتراجع القيم الأخلاقية:
أدى صعود العلمانية التي تعني الإيمان بضرورة فصل الدين عن الحياة العامة، ومن بينها التعليم إلى تراجع دور الدين في التعليم، ولأن الدين هو العامل الحاسم في تشكيل القيم الأخلاقية فقد أدى تهميشه إلى أن تفقد هذه البلدان الإسلامية أهم مصدر للتوجيه الأخلاقي للشباب.
– تدهور القيم الأخلاقية:
لا ريب أن الدين يؤدي الدور الأبرز في تعزيز القيم الأخلاقية مثل الصدق والرحمة والاحترام، وتهميش الدين في التعليم يؤدي ذلك إلى تدهور هذه القيم، وهذا ينعكس على سلوك الأفراد تجاه مجتمعاتهم فتزيد الجريمة وتتفاقم المشكلات الفردية وتتدهور الأسرة، وربما أدى هذا أيضاً إلى التطرف العلماني أو الديني.
– تراجع في الثقافة الدينية والهوية الثقافية:
وأضحى كثير من الشباب في الدول العربية والإسلامية ليسوا على دراية جيدة بدينهم، يمكن أن يؤدي هذا إلى سوء فهم الإسلام وزيادة التعرض للتطرف، ولأن الدين هو المشكل الرئيس للثقافة العربية والإسلامية، فقد فقدت الأمة بتهميش ديمها جزءًا مهمًا من هويتها الثقافية.
– إلحاق الضرر الشديد بالتراث الثقافي:
أدى الاستعمار الأوروبي إلى إغلاق أو تحويل العديد من المدارس الإسلامية التقليدية، وغالبًا ما تم تهميش العلماء العرب والمسلمين أو استبعادهم من النظام التعليمي الجديد، وقد أدى ذلك إلى افتقاد المتعلمين لتراثهم الثقافي وتدهور جودة التعليم في معظم أجزاء المنطقة.
– تعزيز الأفكار والقيم الغربية:
غالبًا ما تؤكد أنظمة التعليم الأوروبية الأفكار والقيم الغربية، مثل الفردية والعلمانية، يمكن اعتبار هذا تهديدًا للقيم الإسلامية المعروفة، ويمكن أن يؤدي إلى صراع بين الثقافتين.
– تدهور اللغة العربية وآدابها:
غالبًا ما تركز أنظمة التعليم الأوروبية على تدريس اللغات الأوروبية وآدابها، على حساب اللغة العربية وآدابها، وقد أدى هذا إلى تراجع استخدام اللغة العربية وفقدان الهوية الثقافية.
معضلة الأسرة المعاصرة
حال التربية هذا يلقي بأعباء جسيمة على الأسرة المسلمة المعاصرة، إن أرادت أن تحافظ على أبنائها وتمنع عنهم الآثار السلبية للتربية العلمانية الغربية المفروضة على المجتمعات العربية والإسلامية، التربية التي لا بد أن تفرز، إن لم تقم الأسرة بدورها، مخرجات بلا هوية ولا انتماء لثقافة ودين وتقاليد وعادات الأمة، مخرجات إن تركت، يمكن أن تهوي بالأمة إلى الحضيض.
الأسرة الممتدة
تختلف الأسرة المسلمة المعاصرة اختلافاً بنيوياً كبيراً عن الأسرة المسلمة في الماضي، فالأسرة في الماضي كانت أسرة ممتدة واسعة، يتعرض فيها الطفل لتأثيرات تربوية وثقافية متنوعة متعاونة ومتساندة، تأثيرات تبدأ بالأم المستقرة في بيتها، المتفرغة لرعاية أسرتها وتربية أبنائها، وأب غير مشغول بغير رعاية أسرته، وهو يعاون بفاعلية في تربيتهم، رغم أنه المسؤول الأول عن تأمين عيش كريم له ولأسرته.
وفي الأسرة الممتدة لا يقوم الأب والأم وحدهما بالتربية والتنشئة، ولكنْ للجد والجدة وللأعمام والعمات والأخوال أدوار مهمة يمارسونها بتلقائية في تنشئة وتربية الأبناء والبنات وحراسة وتقويم أخلاقهم، هكذا كانت تقوم الأسرة بدورها في الماضي.
الأسرة النووية
ولكن الأحوال، لا نقول اختلفت، بل انقلبت رأساً على عقب، فقد انتهت الأسرة الممتدة أو كادت، وأصبحت غالبية الأسر نووية صغيرة تتكون من الأب والأم وطفل واحد أو طفلين، والأنكى من ذلك أن كليهما يعمل في خارج البيت لساعات طويلة تمتد أحياناً إلى اثنتي عشرة ساعة، وهذا يعني أنهما؛ أي الأب والأم، لم يعودا يقومان بدورهما كما كان يفعل الآباء والأجداد، هذا فضلاً عن غياب الأجداد والأقارب عن ساحة التربية.
لا بد أن يؤدي الانشغال الشديد لعمادي الأسرة النووية؛ الأب والأم، إلى ترك الأولاد في مهب المدرسة العلمانية التي تهمش الدين والهوية، المدرسة التي، وإن اهتمت بحشو الأدمغة بالمعلومات وأنواع من الانضباط الوظيفي، لا تنشغل، أو لا تستطيع أن تنشغل كثيراً بغرس الأخلاق وتقويم السلوك.
أولادنا في مهب الريح
الواقع أن الأسرة النووية الضعيفة المحصورة بين مطرقة الواقع الثقيلة وسندان المدرسة، لا تستطيع أن تقوم بدورها في التنشئة والتربية، لا تستطيع أن تقوم بدورها في إصلاح ما تقوم به مؤسسات غريبة على ثقافتنا ومجتمعنا وديننا، تفسد أكثر مما تصلح، الدور الذي سيحاسبها الله عليه، «فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وقد نص الحديث الشريف المتفق عليه على دور المرأة لأنه دور حاسم حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم رَاعٍ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ: والأمير رَاعٍ، والرجل رَاعٍ على أهل بيته، والمرأة رَاعِيَةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راَعٍ، وكلكم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ».
ماذا تفعل الأسرة المسلمة المحاصرة لاستنقاذ أبنائها؟ المهمة كبيرة والحمل ثقيل، وهذه دعوة للمفكرين والعلماء والتربويين للبحث والمشاركة والإدلاء بدلائهم، لعل الله يحدث أمراً.