لا يوجد لفظ تعددت فيه الآراء والاجتهادات بالحق والباطل مثل «الوسطية»، رغم أن معالمها محددة في المصادر الرئيسة للتشريع وفي مقدمتها القرآن الكريم والسُّنة النبوية، ولهذا لا بد من وضع النقاط على الحروف حتى لا يضيع المفهوم الجميل بين غلو الغلاة وتفريط المقصرين.
«المجتمع» تحدثت إلى عدد من الفقهاء والمحدّثين عن كيف نكون وسطيين؟!
في البداية، يؤكد د. سيف قزامل، أستاذ الفقه، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أن الوسطية من أهم صفات أمة الإسلام التي وصفها الله تعالى بها حين قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
كذلك لا يمكن الفصل بين صفتي الوسطية والخيرية التي وصف الله تعالى بها أمتنا حين قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110).
ويشير قزامل إلى أن الوسطية المحمودة هو الوسط بين مذمتين؛ بمعنى الاعتدال دون إفراط أو تفريط، أو الوسط بين التهاون والتشدد، وكلاهما مذموم شرعاً، لهذا فإننا نكون وسطيين في حياتنا كلها بأن نتجنب الأهواء التي يزينها شياطين الإنس والجن، ولا يكون ذلك إلا بأن نفهم تعاليم ديننا في معاملاتنا وعباداتنا لله القائل: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).
قاعدة ذهبية
ويوضح قزامل أن الوسطية والاعتدال تكون في المعاملات مع كل البشر مسلمين وغير مسلمين؛ لأن القاعدة الذهبية التي تحكم علاقة المسلمين بكل البشر: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، وخص الله وسطية واعتدال المسلمين في التعامل مع غيرهم من أتباع الملل والشرائع الأخرى بقوله: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، وحددها بصورة أكبر في التعامل مع الآخر، وفي مقدمتهم أهل الكتاب باعتبارهم الأقرب للمسلمين لأنهم من المفترض أنهم جميعاً يعبدون إلهاً واحداً، فقال سبحانه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
فهم خاطئ
ويحذر قزامل من الفهم الخاطئ للوسطية، قائلاً: الوسطية عندنا هنا لا تعني التنازل عن عقيدتنا أو أي أمر من أمور ديننا مجاملة لأهل الكتاب خلال ما يطلق عليه حوار الأديان، وإنما لا بد أن نعني أنهم لن يرضوا عنا مهما تنازلنا، وهذا ما أكده ربنا حين قال: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120).
ولهذا، والكلام له، واجبنا الاعتزاز بوسطية إسلامنا والتعاون مع غير المسلمين في المشتركات الإنسانية، ولما فيه خير الدنيا للجميع، ولنا في «وثيقة المدينة» التي وقعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين خير دليل على الوسطية بالعزة والحق والعدل.
واقع عملي
ويصف د. حسن كمال، أستاذ الحديث بجامعة الأزهر، الوسطية المطلوبة بأن نتصف بها قائلاً: نكون وسطيين بأن نتصف بالصفات التي وصف الله تعالى بها عباد الرحمن في آيات سورة «الفرقان» من الآية رقم (63) حتى الآية (76)، فهذه الصفات تجسيد حي وواقعي للوسطية في العبادات والمعاملات، فمثلاً في أول آية يقول الله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) (الفرقان: 63)، وقد أحسن الإمام الطبري حين فسرها بالسير بين الناس بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله، بل يمشون بالطاعة والتواضع والعزة والعفاف.
ويشير إلى أن التحلي بهذه الصفات الوسطية يقودنا إلى رضا الله ورسوله، وحسن الأخلاق في التعامل مع الناس أياً كان دينهم أو لونهم أو عرقهم أو وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي، فيكون الجزاء من جنس العمل الوسطي، حيث لخصه الله تعالى في قوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83)، الآخرة هي هدف المسلم الذي ينظر إلى الدنيا على أنها مزرعة الآخرة، ودار ممر لا مستقر، ولهذا يحرص أن يكون وسطياً خيرياً إيجابياً في مجتمعه حتى في إنفاقه باعتبار المال عصب الحياة المادية فيكون سلوكه التوسط وعدم الإفراط أو التفريط، لقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان: 67)، وفسرها الإمام ابن كثير بأنهم ليسوا بمبذِّرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصِّرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلًا خيارًا، وخيرُ الأمور أوسطها.
وينهي د. كمال كلامه مؤكداً أن الوسطية عبادة وعمل في كل ما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة؛ لأن ديننا كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدِّين يُسر، ولن يشادَّ الدِّين أحدٌ إلا غلَبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغَدوة والروحة، وشيء من الدلجة»، وحذرنا من الابتعاد عن الوسطية فنهلك كما هلك السابقون فقال: «يا أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين»، وصدق الشاعر إذ يقول:
عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّها نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولاً وَلَا صَعْبَا
وسطية شاملة
ويؤكد د. محمد عبدالله، أستاذ الفقه بكلية أصول الدين- جامعة الأزهر، أننا دعاة الوسطيَّة، بكل معانيها، وفي مختلف المجالات الدعوية، والاقتصادية، والسياسية، والأدبية، والثقافية والاجتماعية.. وغيرها، وهذه الوسطية تتوافق مع الفطرة السوية المعتزة بدينها وثقافتها، وفي الوقت نفسه حريصة على التعاون مع غيرها في كل ما ينفع البلاد والعباد في إطار الأخوة الإنسانية، وصدق الإمام ابن القيم حين قال: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمَّا تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين.
يتابع قائلاً: المسلم الوسطي يكون معتزاً بدينه، وواعياً بتحديات عصره، مستقلاً في حياته، بعيداً عن التبعية لغير المسلمين الذين يعملون على طمس هوية المسلمين وإضعاف انتمائهم لدينهم حتى لا يكون ممن حذرنا منه رسولنا صلى الله عليه وسلم، حين قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه».
الغلو والتقصير
ويشير إلى أنه وردت كلمة الوسط بمشتقاتها في خمس آيات قرآنية، تدعونا كلها عن الابتعاد عن الغُلُوِّ والتقصير لأنهما مذمومان، وفسر الإمام ابن جرير ميزة الوسطية الإسلامية بأنها بعيدة عن غلوّ النصارى الذين وصلوا تأليه المسيح والرهبنة، وكذلك وسطيتنا بعيدة عن تقصير اليهود الذين بدلوا كلام الله وكذبوا على ربهم، وقتلوا أنبياءهم، ولهذا من نِعَم الله على الأمة الوسط –كما قال ابن كثير- أن خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب، وأنعم الله علينا بالوسطية في كل أمور الحياة، من المأكل والمشرب؛ (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31)، وكذلك في المشي؛ (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان: 19)، وفي الصلاة؛ (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: 110).
ويوضح أن المسلم الحق الواعي بتعاليم دينه هو والوسطية وجهان لعملة واحدة، ولا يبتعد عنها إلا هالك في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا فإن الوسطية هي سفينة النجاة لنا، حيث قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77).
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن «خير الأمور أوسطها»، كما أن المسلم الوسطي الحق يحسن تقديم دينه لغير المسلمين، منفذاً أمر ربه؛ (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وأن يتحلى في حياته كلها وخاصة الدعوية بمكارم الأخلاق التي يحبها الله ورسوله كالحلم والأناة وهين لين قريب من الناس حتى يألف ويؤلف، فالوسطية عندنا لا تثبت بالآراء والأهواء إنما بالأدلة الشرعية.