في سبتمبر 2020م، أطلق البرلمان العربي وثيقة «تطوير التعليم في العالم العربي»، التي تم اعتمادها من قِبل وزراء التعليم العرب بالمملكة العربية السعودية برئاسة وزير التعليم السعودي د. حمد بن محمد آل الشيخ، وبمشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط.
وقد تم إعداد الوثيقة بإشراف لجنة التعليم والبحث العلمي بالبرلمان العربي برئاسة د. مستورة الشمري، عضو البرلمان العربي، عضو مجلس الشورى السعودي؛ بغية تشكيل رؤية استرشادية عربية موحدة للنهوض بالنظام التعليمي العربي ليواكب المتغيرات الدولية الحديثة واقتصاد المعرفة، ويلبي تطلعات الأجيال الناشئة واحتياجات سوق العمل.
وإذ تم إعداد تلك الوثيقة بجهود مشتركة مع عدد من المنظمات الإقليمية العربية والدولية مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، ومكتب التربية العربي لدول الخليج، واتحاد الجامعات العربية، واتحاد مجالس البحث العلمي العربية، فقد جاءت الوثيقة تبعاً لذلك شاملة وحاسمة في تقديم رؤية متكاملة ومتعمقة لتطوير التعليم وانتشاله مما يحيق به من أزمات هيكلية ومؤسسية وبشرية جمة.
وتنضوي الوثيقة على ثلاثة فصول رئيسة، يتضمن الفصل الأول المبادئ العامة للوثيقة والأهداف المبتغاة من جانب واضعيها، أما الفصل الثاني فيتناول إنزال تلك الغايات والمبادئ على التعليم العربي بمراحله المتدرجة؛ بدءاً من رياض الأطفال ثم التعليمين العام والفني ثم التعليم الجامعي، وأخيراً التعليم المستمر، والتعلم مدى الحياة، والتعلم عن بُعد، بينما تم تخصيص الفصل الثالث والأخير للمجالات المستهدفة من وراء عملية تطوير التعليم في العالم العربي؛ وهي: المتعلم، المعلم، المناهج الدراسية، الوزارات والإدارات التعليمية والبنى التحتية.
وقد جاءت لغة الوثيقة قوية ومتوازنة ومركزة وشاملة، فهي تستخدم مفردات تم إيضاحها في قسم التعريفات بالفصل الأول لتكون واضحة جلية، وإذ انشغلت الوثيقة بعلاج موضوع إشكالي ومعضل، فقد جاءت مجملة غير مسهبة في التفاصيل الدقيقة، وهي في الوقت عينة شاملة متكاملة وتتناول بتوازن قوي موضوعات متنوعة بشكل مكثف ومباشر.
وفيما يلي نخوض في قراءة الوثيقة بحسب التقسيم الذي ارتضاه واضعو الوثيقة لها، فنتعرض لكل قسم بالتحليل والنقد وصولاً إلى الختام.
المبادئ والأهداف: الهوية ركن الأساس
على صعيد المبادئ والأهداف التي افتتحت الوثيقة بها جهدها لتطوير التعليم، يمكننا رؤية مدى محورية الهوية والانتماء الوطني والحضاري على الوثيقة، فعلى صعيد المبادئ العامة للوثيقة؛ نجد تعزيز الهوية ودعم اللغة العربية وإقرار التربية الدينية والوطنية أُسساً راسخة لأي تطوير تعليمي؛ وتستهدف من ذلك تعميق الهوية لدى الطالب العربي عبر تنشئة جيل واعٍ ومستنير يعتز بانتمائه وهويته عبر مناهج عربية تثمن القيم العربية والإسلامية ولا تتنكر لها.
كذلك تشهد المبادئ والأهداف توازناً قوياً فيما بين الاهتمامات التطويرية، إذ تتوزع الجهود فيما بين سائر أركان العملية التعليمية من بشر وحجر، إذ اهتمت الوثيقة بالبنى التحتية والدمج التكنولوجي وإعداد المناهج الوطنية بنفس القدر الذي اهتمت فيه بالطالب والمعلم، والتضامن العربي المشترك، وتوفير البيئات التعليمية المناسبة، وإشراك المجتمع الأهلي في وضع الخطط التعليمية.
مراحل التعليم: من رياض الأطفال إلى التعلم مدى الحياة
يظهر من التقسيم السداسي لمراحل التعليم مدى الاهتمام القوي الذي أولته الوثيقة لتطوير العملية التعليمية بكافة مراحلها، افتتاحاً بمرحلة رياض الأطفال؛ إذ خصصت الوثيقة لها قسماً مستقلاً يتجلى منه مدى إدراك واضعي الوثيقة لتلك المرحلة الحاسمة في العملية التعليمية، كما يتجلى مدى اتساع أفق الوثيقة؛ إذ اهتمت اهتماماً خاصاً بالتعليم الفني الذي لا يحظى بالاهتمام –ناهيك عن التقدير– الكافي على صعيد العالم العربي.
كذلك، فقد أولت الوثيقة اهتماماً مميزاً لما أطلقت عليه التعليم المستمر مدى الحياة، إذ أدرك القائمون على إعداد الوثيقة ما يعانيه العالم العربي من أمية لا تزال معدلاتها عالية؛ مما حدا بهم للعمل على وضع أسس جديدة تعالج أسباب الظاهرة؛ مثل التسرب من التعليم والفقر وغياب المساواة في الفرص التعليمية وعمالة الأطفال، وتقدم أساليب جديدة للعلاج تتمثل في دمج العمل الأهلي في عملية محو الأمية، والتوسع في بناء المدن التعليمية، وإطلاق الحملات التوعوية لتشجيع الأفراد على التعلم؛ ليس فقط تعلم مهارات القراءة والكتابة الأولية، وإنما المهارات اللازمة لكسب الخبرات المؤهلة لسوق العمل.
وأخيراً، تدرك الوثيقة مدى ما طرأ على العمليات التعليمية من تحديثات جمة وتحديات تدفع باتجاه نمو التعلم عن بُعد، واستخدام التقنيات الحديثة في مراحل التعليم المختلفة؛ للتيسير على المتعلمين، ومواكبة الأنظمة التعليمية الحديثة، والحد من تكاليف العملية التعليمية التقليدية، والاستعداد للظروف الطارئة التي قد تحتم استخدام التعلم عن بُعد، وضمان توفر البنى التحتية ووسائل الاتصال اللازمة لذلك.
مجالات التعليم: البشر والحجر
تكاملاً مع الفصل الثاني الذي ابتغى تحقيق التطوير على صعيد المراحل التعليمية المختلفة، يأتي الفصل الثالث ليناقش تطوير العملية التعليمية في مجالاتها المتعددة، سواء الكوادر البشرية من المتعلمين والمعلمين، أو المناهج الدراسية، أو الأدوات والوسائل والبنى التحتية المرتبطة بالوزارات والإدارات التعليمية، بالإضافة إلى البيئة والمباني التعليمية.
ويمكن إجمالاً أهم ما جاءت به الوثيقة من مبادئ وإرشادات في سبيل إصلاح التعليم في العالم العربي بسائر مراحله وعلى صعيد أقسامه المتنوعة فيما يلي:
1- الهوية والانفتاح: فالوثيقة تهدف بالأساس إصلاح التعليم العربي بتعزيز الهوية والانتماء والحث على الأخلاق الإسلامية والقيم الحضارية، وهي رغم ذلك تدعو لتنقية المناهج من التطرف والغلو والإرهاب والانفتاح بشكل واعٍ على الثقافات والحضارات واللغات الأخرى.
2- اللامركزية والعمل الأهلي: أعطت الوثيقة أهمية رئيسة للعمل الأهلي ودوره في سائر المراحل التعليمية، ومشاركته في التخطيط والتنفيذ لإصلاح التعليم، وحثت الوثيقة على المرونة في وضع الخطط عبر تطبيق اللامركزية المناطقية في كل دولة؛ لتلبي الخطط احتياجات المجتمعات المحلية وأسواق العمل؛ ومن ثم تُحقق أقصى نجاح ممكن.
3- التحديث: آمنت الوثيقة بأهمية العمل على دمج الأساليب والوسائط التعليمية الحديثة في العملية التعليمية العربية بكافة مراحلها وعلى كافة الأصعدة، سواء عبر تحديث البنى التحتية من مبان ومعامل وأجهزة، أو عبر تحديث الوسائط التعليمية السمعية والبصرية والتفاعلية، أو من خلال الاهتمام بالتعليم عن بُعد باستخدام التكنولوجيا، وتثقيف الأجيال العربية في المراحل التعليمية المختلفة بالتكنولوجيا الحديثة.
4- الإبداع والنقد: تحث الوثيقة صانع القرار العربي بشكل دائم عبر فصولها المختلفة على إخضاع العملية التعليمية برمتها لإعادة هيكلة شاملة، لتحويل العقلية العربية من التقليد والجمود والتبعية، عبر تشجيع العقلية الإبداعية والنقدية التي تنفتح بشكل واعٍ على الآخرين، وتثمن مقدراتها الهوياتية، وتعتز بها، وتميز بين الغث والسمين، وقادرة على مواكبة التحديات وتلبية احتياجات سوق العمل، وتقديم حلول إبداعية قوية لسائر المشكلات المجتمعية التي تحيط بها.
وختاماً، يمكن القول: إن وثيقة تطوير التعليم العربي التي أطلقها البرلمان العربي عام 2020م هي خطة طموحة وواقعية وشاملة يمكن لصناع القرار في العالم العربي، عبر التكامل والتنسيق فيما بين المؤسسات التعليمية والمعنية، تحقيق تقدم مطرد في مضمار إصلاح التعليم في فترة وجيزة، إذا ما وُضعت تلك الوثيقة في الاعتبار، وتم بذل الجهد الكافي لوضعها موضع التطبيق الفعلي دون إغفال لأي من جوانبها.