يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس التاسع بعنوان «معرفة أحوال الناس ومراعاتها».
يقصد بـ«معرفة أحوال الناس ومراعاتها» ملاحظة أحوال الناس، وتقدير واقعهم، والاهتمام بشؤونهم، واختيار الأصلح لهم، حرصاً على هدايتهم.
مراعاة حال المخاطَب تدفع المتكلم إلى اختيار أدق الألفاظ وأحسنها حتى تثير كوامن النفس
التأصيل الشرعي
يتعامل الداعية مع أصناف الناس المختلفة، ويحرص على تبليغ الدعوة إليهم أجمعين، لكن الناس ليسوا على حالة واحدة من الجانب النفسي أو الفكري أو الاجتماعي، فكل حالة تستدعي خطاباً مختلفاً عن غيرها، ولهذا فإن الداعية في حاجة إلى الخروج من الجمود على أسلوب واحد، إلى دراسة هذه الأحوال والتعرف على سبل التعامل معها، فإن هذا من البصيرة التي يجب أن يتحلى بها الداعية، حيث قال تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) (يوسف: 108).
والبصيرة هي الحكمة الدعوية التي تعني وضع كل شيء في موضعه، وهي فعلُ ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي(1)، وقد أمر الله بالحكمة، حتى تؤتي الدعوة ثمرتها، فقال: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، فالحكمة لازمة للداعية، وهي الأساس الذي يرتكز عليه في التعامل مع الناس على اختلاف أصنافهم.
التوظيف النفسي
إن مراعاة حال المخاطَب وتتبع خلجات نفسه من شأنها أن تدفع المتكلم إلى اختيار أدق الألفاظ وأحسن العبارات، التي تثير كوامن النفس، وتدفع المخاطَب إلى الاستجابة الفورية لما يطلبه المتحدث، حيث أكدت الدراسات النفسية أن «الاهتمام بهموم الناس ومشكلاتهم مدخلٌ طبيعي إلى نفوسهم، ووسيلة فعّالة من وسائل تفاعلهم مع المتحدث»(2)؛ لذا وجب أن يكون المتحدث على دراية بواقع المخاطبين، وأن يكون قادراً على انتقاء كلماته التي يلقيها عليهم.
التوظيف الدعوي
إن مراعاة أحوال الناس تجعل الداعية يقدر الأمور حق قدرها، ويضع الأشياء في نصابها، فيرتب أولوياته ويجود أسلوبه ويحسن كلماته وينوع خطابه، حيث إن ما يقال لبعض الناس قد لا يقال لغيرهم، بل إن ما يقال لبعض الناس في موقف قد لا يصح أن يقال لهم في موقف آخر، فلكل مقام مقال، وعلى المتحدث أن يراعي مقتضى الحال، ولهذا فإن الداعية في حاجة إلى معرفة أحوال الناس، حيث يجعلها مرتكزاً لكلامه ومنطلقاً لتوجيهاته.
على الداعية أن يقدر الأمور حق قدرها فيرتب أولوياته ويجوّد أسلوبه ويحسّن كلماته وينوّع خطابه
والناظر في تعاليم الإسلام يجد أنها تؤسس لمراعاة أحوال الناس(3)، ويظهر ذلك فيما يأتي:
أولاً: إرسال الرسل:
حيث اختار الله الرسل من بين أقوامهم، ليكونوا أعلم بحالهم، وليبينوا لهم، فقد قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، والمقصود بقوله: (بِلِسَانِ قَوْمِهِ): لغتهم، لكي يتيسر لهم فهم ما يريد أن يبلغهم إياه، وفي هذا مراعاة لحال الناس، وليس المقصود هنا الوقوف عند اللغة المنطوقة فقط؛ بل يضاف إليها الطريقة التي يفهمون بها، ويدل عليه ما جاء في معجزات الرسل، حيث كانت معجزة كل رسول مما اشتهر في بيئة القوم الذين أُرسِل إليهم، من أجل إقامة الحجة عليهم، مما يألفون من أحوالهم، فلما كان الغالب على قوم سيدنا موسى عليه السلام هو السحر؛ أيده الله بمعجزة أدهشت قلوبهم وأبهرت أبصارهم وحيّرت عقولهم، وهي العصا، ولما كان الطب غالباً على بيئة سيدنا عيسى عليه السلام؛ أيده الله بمعجزات شفاء المرضى وإحياء الموتى، ولما كانت الفصاحة والبلاغة غالبة على البيئة العربية؛ أيد الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن التي أعجزت الناس أجمعين.
ثانياً: تنوع أساليب الدعوة:
حيث قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقد جاء هذا التنوع في الأساليب تبعاً لتنوع أصناف الناس وأحوالهم، ولهذا كان سيدنا نوح عليه السلام يدعو قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وكذلك «كان رسول الله يُلَوِّن الحديث لأصحابه، فكان تارة سائلاً، وتارة مجيباً، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيده عما سأل، وتارة يضرب المثل لما يريد تعليمه، وتارة يصحب كلامه بالقسم، وتارة يلفت السائل عن سؤاله لحكمة بالغة، وتارة يُعَلِّم بطريق الكتابة، وتارة بطريق الرسم، وتارة يسلك سبيل الدعابة، وتارة يخص النساء ببعض مجالسه، وتارة يراعي أحوال من بحضرته من الأطفال والصغار، فيتنزل إليهم ويعلمهم بما يناسب طفولتهم»(4).
ثالثاً: التدرج في الدعوة:
فالقرآن الكريم لم ينزل على الرسول دفعة واحدة، وأحكام الحلال والحرام لم تستقر دفعة واحدة، وإنما جاءت متدرجة على مراحل متعددة، من أجل مراعاة أحوال الناس، ولهذا يجب على الدعاة أن يراعوا أحوال الناس، فيتدرجوا معهم في الوسائل والأساليب حتى يهتدوا إلى الصراط المستقيم، ويدل على هذا ما ثبت عن سيدنا عمر بن عبدالعزيز حين تولى الخلافة، وقد جاءه ولده يقول له: أنْفِذ الحقَّ فما أبالي لو غلت بي وبك القُدور في سبيل الله، فقال عمر: يا بني، لا تَعجَل، فإن الله ذَمَّ الخمر في القرآن مَرَّتَين ثم حرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحقِّ جُملة فيتركوه جملة، وتكون فتنة(5).
رابعاً: تعدد أبواب الخير:
فقد شرع الإسلام أبواباً متعددة لكسب الحسنات، بحيث يستطيع من لم يقدر على بعض الأعمال أن يجد الثواب في غيرها، ويدل على هذا ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يعملُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ»، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ»، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ»، قيل: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قال: «يمسك عن الشر، فإنها صدقة»(6)، ففي تنوع الأعمال التي يتم من خلالها تحصيل الأجر والثواب ما يؤكد مراعاة أحوال الناس.
خامساً: تنوع الوصايا الدعوية:
حيث كان الصحابة يطلبون الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فيوصي أحدهم بقوله: «لا تغضب»، ويوصي الآخر بقوله: «أوصيك بتقوى الله»، ويوصي الثالث بقوله: «اتق الله حيثما كنت»، ويوصي الرابع بقوله: «اعبد الله كأنك تراه»، ويوصي الخامس بقوله: «أوصيك ألا تكونَ لعاناً».. إلى غير ذلك من الوصايا التي يدل تنوعها على مراعاة أحوال الناس ووصف الدواء المعالج لدائهم.
ضرورة مراعاة أحوال الناس والتدرج معهم في الوسائل والأساليب حتى يهتدوا إلى الصراط المستقيم
وهكذا يتبين أن مراعاة أحوال الناس ضرورة دعوية، حيث تسهم في الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية المرجوة، فعلى الداعية أن يراعي أحوال المدعوين النفسية والاجتماعية، من خلال التعرف على الحاجات، والوقوف على المشكلات، وترتيب الأولويات، وحسن اختيار الأوقات والكلمات.
الدليل على التأثير الناجح
لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في مراعاة أحوال الناس وإنزالهم منازلهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم، مما أدى إلى التأثير فيهم وحملهم على ترك مواقعهم والتخلي عن مواقفهم البعيدة عن الإسلام، بل إنهم أعلنوا أن تحولهم واستجابتهم إنما كانت بسبب مراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
فقد ثبت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أن فتح مكة، خرج بعدها إلى حُنَين وانتصر فيها، وغنم غنائم كثيرة، وكان قد حمل معه إلى حُنَين بعض زعماء مكة الذين أسلموا في الفتح، ومنهم صفوان بن أمية (وكان يحب المال)، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مِائَةً مِنَ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً، حتى قال صفوان: وَاللَّهِ، لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ مَا أَعْطَانِي، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ الناس إليَّ(7)، ففي هذا دليل على التأثير الناجح لمراعاة حال المدعو، وتأكيد على ضرورته في العمل الدعوي.
فعلى الداعية أن يلاحظ أحوال الناس، ويهتم بشؤونهم، ويتعرف على احتياجاتهم، ثم يراعي ذلك في توجيههم، من أجل المحافظة عليهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
__________________________
(1) مدارج السالكين: ابن قيم الجوزية، (3/ 294).
(2) الإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 317.
(3) مراعاة أحوال المخاطبين: د. فضل إلهي، ص: 8 وما بعدها.
(4) الرسول المعلم وأساليبه في التعليم: عبدالفتاح أبو غدة، ص: 63-64.
(5) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ابن الجوزي، (10/ 229).
(6) صحيح مسلم، (2/ 699 رقم 1008).
(7) صحيح مسلم، (4/ 1806 رقم 2313).