نتناول في هذه المقالة أهم الضرورات الحضارية للدعوة إلى تجديد التعليم الفقهي، ونلاحظ هنا أننا بصدد الدعوة إلى إطار تعليم الفقه، وليس الفقه ذاته، فهذا عمل لا يدخل في اهتمامات تلك المقالة، وإن كان تجديد النظر الإسلامي عامة يتطلب تجديد النظر في تعليم العلوم الإسلامية، ونقف فيما يلي على أهم الضرورات الحضارية للدعوة إلى تجديد التعليم الفقهي داخل أروقة المؤسسات التعليمية المتخصصة أو البرامج المقدمة للتعليم الفقهي.
1- إعادة الفقه الإسلامي إلى الحياة الإسلامية:
إن السياقات الحضارية والاجتماعية التي دخلت فيها الأمة في القرنين الماضيين، بالإضافة إلى الاحتكاك العنيف بالحضارة الأوروبية، وما نتج عنه من تصدير لمشكلات العقل الأوروبي القروسطي والحديث إلى العقل المسلم الذي يعاني من حالة جمود وتيبس في علاقته بمصادر فكره وحركته، كل ذلك أدى إلى انفصال الفكرة الإسلامية (التي يجسدها الالتزام التشريعي للفرد والمجتمع) عن الحياة الإسلامية، ومن ثم أدى إلى خلل واضطراب في المرجعية الإسلامية بصورة أساسية، والتشكيك في قدرتها على ممارسة الحياة بمستجداتها وتطوراتها، فكان لجوء العقل المسلم إلى الاقتباس والاستيراد إلى حد الاستلاب، فانزاحت الفكرة الإسلامية عن حركة الحياة الإسلامية، واستقلت بجانب متوقف في نفس الفرد هو جانب التقديس الفارغ المضمون والقيم، مع استكانة العقل المسلم على حالة الجمود التي ظهرت نتائجها في أمراض عديدة، كان من أكثرها خطورة هو توقف حركة الاجتهاد، الذي نتج بدوره عن توقف حركة التربية الإسلامية عن العطاء الحضاري في الفرد والمجتمع.
إن أحدًا لم يفطن أو لم يبال بالحقيقة التي مفادها أن من أسباب الجمود المتطاول في حركة الفقه والاجتهاد، ومن أسباب تباعد حياة المسلمين عن الإسلام، هو تجافي الفقهاء عن أن يكونوا تربويين وليس فقط مربين، وعن أن يفكروا في فقه الشريعة أو فقه التعليم كما فكروا في علوم الفقه.. إنه السبب الماثل في انفصام التربية الإسلامية عن الفقه أو تعالي الفقه الإسلامي عن التربية وعن التنظير التربوي بصفة خاصة، لقد حدث هذا التجافي نتيجة عوامل كثيرة، من أبرزها ثقة الفقهاء بدوام التزام المسلمين بالتعاليم الشرعية في حياتهم، ودوام الحياة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الإسلامي، وأن كل جيل من المسلمين سوف يتحمل مسؤولياته تجاه الإسلام، ويقوم بتربية الأجيال التالية على نفس النهج دون وجود انحراف في الحياة الإسلامية وفي الأجيال الإسلامية ذاتها!
إن التفقه في الحياة الإسلامية وما يرتبط به من مفاهيم ونظريات وإجراءات ونظم ومؤسسات هو «تربية» وإعداد وتأهيل، والتربية في الحياة الإسلامية وما يرتبط بها من نظريات ومفاهيم ومؤسسات وإجراءات وعمليات.. هي فقه، وبناء عليه؛ فإن الفقه بمعناه الشامل لا يفعل فعله في عقلية أجيال المسلمين، وفي تأهيل نفسياتهم وفي سلوكهم إلا بالتربية الإسلامية.
في ضوء ذلك، تبدو أهمية الدرس التربوي للفقه في واقع مؤسسات التعليم في المجتمع الإسلامي المعاصر، الذي هو أحد منطلقات دعوتنا في تجديد درس التعليم الفقهي، وتطوير مساحته في البناء المنهاجي لمؤسسات التعليم في الأمة.
2- قصور العناية بالتربية الفقهية للنشء:
في الوقت ذاته -أي التراجع الحضاري للأمة، وتوقف العقل المسلم عن العطاء والتفاعل مع الحوادث والطبيعة- افتقدت التربية الإسلامية (المدرسية وغير المدرسية) القدرة على بناء الشخصية المسلمة الرسالية؛ وذلك لأن مناهج التعليم التي تحملها قد توقف الإبداع فيها وثبت إلى ما قبل حركة التغيير الحضاري الحديث، ويمكن أن نرى في ذلك سببًا من ناحية ونتيجة من ناحية أخرى، فالمناهج الجامدة صحبها توقف في الحياة الإسلامية، وتوقف الحياة الإسلامية أدى إلى ترسيخ مبدأ الجمود في الحركة التربوية والعلمية الإسلامية.
إن توقف الدين عن وظيفته كان بسبب جمود العقل المسلم، والجمود هو الذي رآه محمد عبده تفسيرًا داخليًّا وذاتيًّا لحالة التراجع والتقهقر الحضاري للأمة، و«الجمود» في اللغة ضد الحركة، والتدفق، والخصب، والنماء، والجود.
ويقصد بجمود العقل هنا: أن العقل المسلم قد توقف وثبت في مكانه، ولم يَعُد قادرًا على الحركة والتدفق الفكري بما أفقده النماء والخصب المنتظر الناتج عن إعمال العقل في النظر في دينه ومتطلبات معاشه، وغياب حركة العقل أنتج هذا الجمود الذي هيمن على الحياة الفكرية والاجتماعية للمسلمين فأصابها السكون واللافعل واللاعمل.
إن الجمود الذي أصاب الحياة الفقهية يُعد أكثر أشكال الأزمة الحضارية خطورة، وذلك لأنه أدى إلى الانفصال المزدوج؛ الأول: انفصال المسلم عن عقيدته التي يرى فيها ضعفًا لحل مشكلاته الحيوية المعاصرة والمَعيشة، ومن ثَم لجأ إلى غيرها للحصول على هذا الحل أو الحق، والثاني: الانفصال عن الواقع المعيش والتخلف عنه لصالح واقع آخر يبعد عنه عشرات القرون.
بُعد آخر لوجه أزمة انفصال التعليم الفقهي عن الحياة الإسلامية، وهو التعليم المتمذهب (الفِرقي والكلامي والمذهبي)، حيث اهتم كثير من أهل الفقه بتربية المريدين على مذاهبهم ومدارسهم وفرقهم، لا الاهتمام بتكوين العقل الثقافي المسلم الأساسي.
يذكر أحد الباحثين في ذلك: «.. لا نستطيع أن نحمل أطراف التربية الفقهية المسؤولية كاملة عن غياب الاهتمام بهذا النوع من التربية لعموم الأمة -لا سيما الناشئة منها والشباب- الذين يضطلعون بتكوين العقل الثقافي للأمة، نظرًا لحيويتهم ونشاطهم، فبينما اعتنى التربويون بمسائل عامة في التربية الإسلامية للنشء لا سيما الجانب الأخلاقي، اهتم أهل الفقه بتربية أجيال من الفقهاء المتخصصين في الفقه والمتمثلين لمذاهبهم ومدارسهم الفكرية إلى حد النزاع بين هذه المدارس، بينما أهمل التربويون الاستناد الفقهي في آرائهم التربوية، أهمل الفقهيون تربية عموم الأمة وناشئتها تربية فقهية منضبطة بعيدة عن الخلافات والنزاعات المذهبية والمدرسية التي أبعدت جماهير الأمة عن خط الفقهاء».
في ضوء ذلك، نجد أن القصور في تربية النشء الفقهية تأتي من جانبين؛ الأول: من الداخل؛ وذلك بغياب الاهتمام التربوي والتعليمي للتعليم الأصيل والقصور الواضح في تقديم الدرس القيمي والتربوي للفقه، والثاني: من الخارج؛ ويظهر في هيمنة الثقافات المستلبة التي يزخر بها التعليم الحديث في المجتمع الإسلامي المعاصر.