قبل وفاته بأيام قليلة، خص الباحث علي عبدالرحمن «المجتمع» بهذا الحوار الذي دار حول مشروعه الضخم الذي استغرق منه 16 عاماً لتحقيق تراث الشهيد سيد قطب من الشعر في 7 مجلدات كبيرة، وهذا نص الحوار:
نحب أن نقدم شخصكم الكريم لقارئ هذا العمل البحثي الضخم؟
– اسمي علي عبدالرحمن عطية، تخرجت في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف عام 1986م، وأنا من مواليد الصف محافظة الجيزة عام 1958م، وحصلت من معهد الصف الأزهري على الثانوية العامة (علمي)، وبدأت عملي الصحفي بعدة أماكن إعلامية إلى أن استقر بي الأمر في مؤسسة «الأهرام»– قسم المعلومات، وقد قمت بإنجاز أول كشاف إلكتروني لمجلة «السياسة الدولية» لأعدادها الكاملة من يوليو 1965 حتى نهاية ديسمبر 2009م، وكان الأصل في هذا العمل أنني أعددته لدراسة علمية، وأنا الآن أعمل كنائب لرئيس قسم المعلومات بجريدة «الأهرام».
7 مجلدات ضخمـة تضم تراثًا نادرًا ومجهولاً للشهيد قطب
ماذا عن هذا المشروع العلمي الخاص بتراث الشهيد سيد قطب؟
– بدأت هذا المشروع عام 1995م، وكنت أنوي أن أتقدم به كبحث تمهيدي للماجستير بمعهد البحوث والدراسات العربية، ولكني وجدته مشروعًا ضخمًا أكبر من أن أحصره في بحث أكاديمي ضيق، فانطلقت في إنجازه حتى انتهيت منه عام 2011م، بعد رحلة بحث مضنية أمضيت فيها 8 سنوات منقبّاً في الأضابير والخزائن على أعداد جريدة «البلاغ الأسبوعي»، و«البلاغ اليومي»، ومجلة «المقتطف»، ومجلة «الرسالة»، ومجلة «الثقافة»، وجريدة «الإخوان المسلمون»، وقد حصلت خلال هذه الرحلة على أعمال وقصائد للشهيد العظيم سيد قطب(1) لم تجمع من قبل مثل «قصيدة الحرية» التي نشرت قبل ذلك بجريدة «الإخوان المسلمون» بالعدد العاشر، السنة الأولى، بتاريخ 25 ربيع الآخر 1352هـ/ 1933م، ضمت مقالاً للأخ الشاعر سلامة خاطر، ناظر معهد حراء بالإسماعيلية تحت عنوان «الحبيبة المنشودة»، بقصيدة «الحرية»، وقال عنها سلامة خاطر: «في هذه الأبيات ألقيت مقالتي مستورة منشورة، بعد أن طافت بخلد الشاعر الطريف (سيد قطب)، فدارت معانيها بخاطري، وسرت من نفسي مسرى الشفاء في الداء، إذ وجدته يتغنى بفاتنة الأرواح الزكية، من مبدأ الأزل إلى آخر الأبد، وهي بذاتها الحبيبة المنشودة، الحرية، وفيها يقول سيد قطب:
تيمت كل فؤاد في هواها واستوت من كل نفس في حشاها
مزجت بالــروح في تكوينها فهي لا ترضى بها شيئًا سواها
فتن الطفل بها في مهده وغرام الشيخ فيها قد تناهى
سبح العصفور شدوًا باسمها ورآها فتنة لما رآهـا
صوروها وتولوا وصفها ويْحَكُم يا قوم شوهتم حلاها
إنها في النفس أبهى صورة فدعوها حيث شاءت تتباهى
هي معنى غير محدود فلا تحصروها في حدود تتناهى
اتركوها تسبح الأرواح فيها إنكم لن تدركوا يومًا مداها
ليس في الألفاظ أو بين الدما مفصح عنها كما نحن نراها
هي ماذا؟ هي معنى قد سما هي روح يبعث الموتى شذاها
هي وحي يلهم النفس فتسمو عن خسيسات الأماني وخناها
أرأيت الطير يشدو فرحًا منشدًا عذب الأماني منتقاها
هو لما ذاق منها كأسـها أسكرته فتغنى في لماها
أم رأيت الطفل إذ تكبحه تظلم الدنيا ويغشاها دجاها
هو لا يرجو سواها متعة وهو إذ يبكي على شيء بكاها
هي روح الحسن في عليائه صورة أخرى له أنت تراها
جاهد الأحرار في ميدانها ثم ماتوا بفخار في حماها
لو يضحوا في هواها غاليًا هي كل ما عزّ رخيص في هواها
سيد قطب كاتب القصة القصيرة المجهول
لا.. لم يقل قطب ذلك أبدًا
وهل بالفعل وجدت مقالاً بـ«الأهرام» يدعو فيه الشهيد سيد قطب إلى العري العام، كما نشرت عنه بعض الأقلام ذلك؟
– أبدًا، وهذه الفكرة لم ينحدر إليها سيد قطب على الإطلاق، فالمقال المشار إليه نشر بـ«الأهرام» عام 1938م في شهر أغسطس، وكان سيد قطب من أقوى الأقلام المبشرة بالاشتراكية، وفكرة العدالة الاجتماعية، والنظر في الخلل في النفقات وتوزيع الثروة بين فئات المجتمع، فكتب مقالاً بعنوان «الشواطئ الميتة»، وكانت فكرة المقال لا تنادي إطلاقًا بالعري، كما نشر عنه، ولكنه كان يقصد الذوات والباشوات الذين يذهبون للتعري والتصييف في تركيا وأوروبا، ويناشدهم أن بلادهم أولى بهم، بدلاً من أن ينفقوا هذه الأموال بالخارج، فأولى بهم أن ينفقوا هذه الثروات في مصر التي أصبحت شواطئها ميتة، بعد أن كانت تضج بالحياة.
لهذه الأسباب لا بد من تقديم هذا التراث النادر
السبـع السمان
أعطنا فكرة عامة عن هذا العمـل ككل.
– هذا العمل يضم 7 مجـلدات، على النحـو التالي:
المجلد الأول: ويشمل الأعمال الشعرية التي بدأها سيد قطب منذ عام 1924م في مجلة «الحياة الجديدة» وحتى مع عام 1956م بقصيدة «أخي»، ويشمل ديوانه «الشاطئ المجهول» بالإضافة إلى القصائد التي كانت خارج الديوان، ويضم 24 قصيدة كانت مجهولة، لم يذكرها أي باحث من قبل، منها قصيدة «الأهــرام»، إضافة إلى أربع قصائد كانت مقررة ضمن منهج وزارة التربية والتعليم، وظلت تدرس من عام 1954 بالمرحلة الابتدائية والإعدادية حتى عام 1965م، حتى كانت مذبحة الطغاة، فتمت مصادرة حياة الرجل وتاريخه وإنتاجه، ولو استطاعوا لصادروا اسمه من سجل الحياة وديوان التاريخ.
فمن أنشـودة «الهرم» يتغنى مع الأشبــال:
انظروا للهــرم شامخًا كالقمــم
واشهــدوا أننـا فوق كل الأمــم
قد بنـاه الجـدود باقيًا للخــلـود
واشهــدوا أننـا قد خلقــنا نسود
في ظلال العصور من قديم الدهـور
في ظلام العصور في رقي ونــور
وأنشـودة «مصيف الثغر» كانت مقررة على الصف الأول الإعدادي من عام 1954 – 1965م، وأنشودة «المصيف» كانت مقررة بالصف الرابع الابتدائي في ذلك الحين.
والمجلد الثاني: يتضمن الأعمال الروائية «طفل من القرية»، «رواية أشواك» وهما عن سيرته الذاتية.
كان سيد قطب نزيلاً للسجن الحربي بالستينيات وأشعاره وأناشيده تُدرَّس بالمراحل التعليمية المختلفة لمدة 10 سنوات كاملة
والمجلد الثالث: ويشمل «الأطياف الأربعة»، «المدينة المسحورة»، قصص قصيرة كتبها قطب بالبلاغ الأسبوعي من عام 1928 وحتى عام 1945م، وهي عبارة عن 15 قصة قصيرة رائعة.
المجلد الرابع: محاضرات في النقد والأدب كان سيد قطب يلقيها على طلاب الدراسات العليا بدار العلوم.
المجلد الخامس: وهي الأعمال النقدية الخالدة، وتضم كذلك المعارك التي خاضها منذ عام 1924م وهو طالب بالمرحلة الثانوية، وحتى عام 1953م، وهي تمثل 25% من إنتاجه الأدبي، وتشمل أكثر من 150 مقالة، تتناول معاركه مع طه حسين، والعقاد، والزيات، والرافعي من جيل الأساتذة، وعبدالمنعم خلاف، ونجيب محفوظ، وصلاح ذهني، ومحمد مندور، ودريني خشبة، وسهير القلماوي من أبناء جيله، وللعلم، فإن سيد قطب لم يهزم في معركة أدبية أو فكرية قط، فقد كان رصينًا في نقده، ولم يتبدل، أو يهبط، حتى مع أشد خصومه عداءً، ولم يجرّح أحدًا، ولم يحتكم إلا إلى موازين النقد، ودقة أحكامه المتعارف عليها.
المجلد السادس: وهو عبارة عن رؤيته للإصلاح الاجتماعي ويضم 80 مقالاً في هذا الصدد، نشرها بـ«الأهرام» و«الرسالة» و«الثقافة» و«لواء الإسلام»، و«الاشتراكية» وجريدة «الملايين»، التي كانت لسان حال اليسار المصري في ذلك الحين، و«الفكر الجديد» و«العالم العربي» وكذلك مجلة «الشؤون الاجتماعية» و«الشعب».
المجلد السابع: معاركه السياسية والإسلامية، مثل معارك الأحزاب والقصر والإسلام الأمريكاني، وفلسطين، ومن العجيب أن سيد قطب قد تكلم عن الاحتلال الفرنسي وهو ما زال طالبًا بتجهيزية دار العلوم، وخلال هذه الفترة جميعًا، لا تجد للشهيد سيد قطب أية سقطات للتزلف أو النفاق أو المداهنة، على عكس كل مثقفي وكتَّاب عصره أجمعين.
محمد قطب يتحفظ في البداية ويبارك العمل في النهاية
لكن الكثير من الباحثين قاموا من قبل بمثل هذا العمل في رسائل الماجستير والدكتوراة، وهناك بالخصوص، الباحث الفرنسي آلان روسيون الذي قدم هذه الكتابات الإصلاحية لسيد قطب في مجلد ضخم باسم «المجتمع المصري جذوره وآفاقه».
– أولاً: هناك بمكتبة الكونجرس وحدها أكثر من 152 رسالة ماجستير ودكتوراة حول سيد قطب، وفي منطقة غرب وجنوب آسيا أكثر من 50 رسالة، ولا أكاد أحصي الرسائل التي تناولت فكر وأدب وإسلاميات سيد قطب في منطقتنا العربية.
ثانيًا: آلان روسيون تناول مقالات سيد قطب الإصلاحية بمجلة الشؤون الاجتماعية فقط من عام 1940 إلى عام 1946م تحديدًا.
وقدم تصورًا لثلاث مجموعات، لرؤى سيد قطب الأدبية والإصلاحية والإسلامية، وهي عبارة عن 59 مقالاً فقط، وهي لا تمثل عُشر إنتاج سيد قطب رحمة الله عليه، فالباحث كان يدرس فكرة العدل الاجتماعي والإصلاحي فقط.
حكاية د. حمدي مسعود أستاذ الجراحة بجامعة باريس مع حميدة قطب لا تقل عجبًا عن حكاية الشهيد كمال السنانيري مع أمينة قطب
بين يدي محمد قطـب
وما رأي العلَّامة أ. محمد قطب في هذا العمل، خاصة وهو الأمين الأول على فكر شقيقه وأسرته المجاهدة؟
– لقد هاتفت المفكر المجاهد الجليل المرحوم العلَّامة أ. محمد قطب وأرسلت له نسخة من الأعمال الشعرية، وأبدى عليها بعض الملاحظات، ثم التقيت به في بيته المبارك بمكة المكرمة، على مدار يومين، وحضر اللقاء الطبيب البارع أ. د. حمدي مسعود، أستاذ جراحة القلب بجامعة باريس، وزوج أ. حميدة قطب، وهو واحد من أنجب تلاميذ سيد قطب، وقد عاصره بمستشفى قصر العيني لمدة 5 سنوات.. وأشقاؤه جميعًا دكاترة، وقصته مع حميدة قطب لا تقل عجبًا عن قصة الشهيد كمال السنانيري مع أمينة قطب.
حيث ظل د. حمدي مسعود خاطبًا لحميدة قطب من عام 1965 حتى عام 1972م حيث عقد لهما القِران أ. حسن الهضيبي، وحضر عرسه كبار الإخوان، وحياة هذه الأسرة المجاهدة يجب أن تدرس على مستوى الفكرة الإسلامية، تصديقًا وتطبيقًا.
وفي هذه الزيارة عرضت المشروع على الشيخ أ. محمد قطب على مدى 3 ساعات كاملة، وفوجئت أنه يعي ويعرف كل هذه المقالات، بل والظروف التي نشرت فيها، حتى إنه ناقشني في مقال «المنبر الحر» الذي نشر على صفحات مجلة «الأسبوع» على مدى 6 حلقات عام 1934م والخاص بالمعركة النقدية التي كانت في ذلك الحين بين الشباب والشيوخ.
وكذلك ناقشني في ردود سيد قطب على محمد مندور، وكنت قد أخطأت أمامه وقلت محمد تيمور، فقال لي على الفور: محمد مندور، وفي اليوم التالي طلبني، وقال: هذا عمل طيب ومشكور عليه، وهو جهد طيب، وأبدى لي بعض الملاحظات، كما اعترض على نشر ثلاث قصائد، وقال: لا أريد نشر رواية «أشواك»، وغير ذلك من الملاحظات.
بيانات وردود
وبعد أن استمعت لرأيه كاملاً استأذنته في الرد، وكان مجمل ردي يتلخص في 4 نقاط كالتالي:
الأولى: أن أدب سيد قطب أدب راق منذ نعومة أظفاره، وحتى استشهاده، حيث رسم خطوطه وخطاه من أجل بناء مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة، ومعروف أن الأديب الحق هو الذي يكتب عن قضايا مجتمعه، على حد تعبير د. عز الدين إسماعيل، وحتى رواية «أشواك» يتحدث فيها عن علاقته بمحبوبته، وهذا سياق اجتماعي طبيعي لرجل في مثل هذا العمر، ويملك مثل هذه المواهب، وليس في ذلك ما يشين.
الثانية: سيد قطب ليس ملكًا لمحمد قطب، ولا للإخوان المسلمين ولا للعرب، ولا للمسلمين، ولكنه ملك للأدب الإنساني والفكر العالمي.
الثالثة: لو كان سيد قطب يعلم أنه سيغيّب أدبًا وفكرًا، إلى هذه الدرجة، لقام بنشر هذه الأعمال في كتب ومجلدات.
الرابعة: سيد قطب لم يكن لديه الوقت الكافي لجمع هذا التراث؛ لأنه كما نعلم سافر إلى أمريكا، وأتى ليدخل المعتقل، وليبدأ حياة ملؤها الظلم والتعذيب، إلى حد لا يتصوره أحد، وهذا الضيق والتضييق الذي عانى منه الرجل لا يحسب عليه، بل تحسب علينا نحن الذين نملك الحرية وسعة الوقت.
فإذا بالأستاذ محمد قطب، يقول لي: على بركة الله، انشر هذا التراث، ثم قال الكلمات التي سبقت الإشارة إليها: «هذا عمل طيب، وجهد مشكور عليه».
هذا، وقد أوضحت لفضيلته أبعاد المؤامرة التي يتعرض لها تراث سيد قطب، ومدى شراسة حملات التغييب والتشويه لهذه القامة والقيمة الفريدة، خاصة والدوريات التي كانت يكتب فيها قد أصبح معظمها في حكم العدم، وفي فترة الستينيات كان يتم قص وحذف هذه الكتابات لسيد قطب من مصادرها الأصلية، وبعد فترة سيتعذر نهائياً الحصول على هذا التراث، نظرًا لهذا الإتلاف العمدي لهذه الوثائق.
هل سبق لهذا القلم الشريف أن كتب شيئًا مشينًا؟ الوثائق تجيب!
ما أهم هذه المعارك الفكرية للشهيد سيد قطب، إضافة إلى ما تقدم من تفاصيل؟
– لقد كان سيد قطب جادًا ومفيدًا وجديدًا في كل ما كتب من أدب أو فكر أو إسلاميات، ومن أهم هذه المعارك التي يبدو فيها سمو هذا الرجل العظيم معركة مع جماعة «أبوللو» على الرغم من أنه كان من مؤسسيها.
وكذلك معركته مع طه حسين في رده على كتابه الخطير «مستقبل الثقافة في مصر»، حيث كان سيد قطب من أوائل المنتبهين والمنبهين لمسألة الغزو الفكري، والاختراق والتبعية، حيث كان صاحب قلم شريف.
ومن أكبر هذه المعارك النقدية، معركته التي خاضها مع تلميذ الرافعي محمد سعيد العريان، حيث كان قطب عقَّادياً، والعريان رافعياً، والاثنان أصبحا فيما بعد من أهم رموز الأدب والفكر الإسلامي المعاصر، وكذلك معركته مع محمد مندور، حول «الأدب المهموس» في الأربعينيات، ومعركته مع الزيات حول الدفاع عن البلاغة، وإلى سيد قطب يرجع الفضل في تقديم العديد من أبناء جيله إلى الساحة الإبداعية عبر قلمه النقدي المتفرد، وأهم هؤلاء، هو نجيب محفوظ الذي تنكر لهذه «المكرمة القطبية»، وردها بأسوأ ما يكون رد الجميل.
رحم الله شهيد «المعالم» و«الظلال»، وشكر الله للباحث يرحمه الله هذا الجهد المضني، وتقبل الله عمل العاملين.
___________________________
(1) استشهد في 29/ 8/ 1966م، أما ميلاده فكان في 9/ 10/ 1906م.